الفنار بلا نار - جوني منصور

قصر عبدالله باشا ويظهر الفنار، من اواخر القرن التاسع عشر


تتميز مدن الموانئ في العالم أجمع بوجود "فنار" أو كما يعرفها البعض بـ "منارة" عند مدخل الميناء أو على قمة تلّة عالية قريبة من الميناء. وكان نصيب حيفا مشابهًا لمدن الموانئ بوجود فنار على قمة جبل مار الياس عند الموقع الذي عُرف لاحقًا بـ "ستيلا مارس". ولفنار حيفا قصة أو مجموعة من القصص والروايات الهامة التي يجدر بكل واحد معرفتها وحفظها لِمَا فيها من فائدة علمية لا بأس بها.

- "فنار": فارسية أم يونانية؟!

ولفهم ما القصد بكلمة "فنار" نعود أولاً إلى القاموس لنغوص فيه تحقيقًا لغاية نيل تعريف بها. فقاموس المنجد يُعرّف كلمة "فنار" على أنها من جذر "فنر"، وجمعها "فنارات" وتعني المَشْعَل أو المنارة. وهي فارسية الأصل. وفي تفسير آخر للأب نخلة اليسوعي يقول إن أصلها من اللغة اليونانية ويُعتقد أن لها علاقة بـ"فاروس" وهي جزيرة عند مدخل ميناء مدينة الاسكندرية بمصر حيث بُنيت فيها أشهر منارة في العالم والتي اعتبرت فيما بعد من عجائب الدنيا السبع، ومن هنا جاء اسم "فنار"، أي البرج المضيء ليكون علامة مُميّزة لهداية السفن لدخول الميناء بأمان وسلام. وكانت تشعل في الفنار نار تضيء ليلاً لهذه الغاية.

- مبنى الفنار: من البداية وحتى اليوم

كانت بداية الفنار قصرًا صغيرًا بناه عبدالله باشا والي عكا ليكون مصيفًا له ولعائلته بعيدًا عن عكا وضجيجها كعاصمة الولاية في ظل الحكم العثماني، ولينال قسطًا من الراحة والاستجمام، وكان ذلك في عام 1821. أما اليوم فالموقع تحت سيطرة الجيش الاسرائيلي الذي يستخدمه كمرصد عسكري لمرافقه.

- قصر عبدالله باشا من بقايا دير مار الياس

عندما قرر عبدالله باشا بناء قصره فوق جبل الكرمل، استخدم حجارة دير مار الياس القديم في الموقع ذاته. وكان عبدالله باشا هذا هو نفسه الذي أمر بهدم بقايا الدير في عام 1821 خوفًا من وصول الثوار اليونان إلى الموقع ومنه يمكنهم احتلال عكا. ولكن ما هو مؤكد أن عبدالله باشا كان يهدف من وراء خطوته هذه منع الرهبان الكرمليين من العودة إلى حيفا مرة ثانية. فاستخدَمَ عمال البناء الذين سخرهم عبدالله باشا لبناء قصره كمية لا بأس بها من حجارة الدير. وتألف القصر الصغير من طابق أرضي لا غير تحيط به حديقة صغيرة زرعت فيها بعض أشجار النخيل التي ما تزال موجودة هناك إلى يومنا هذا.

- ابراهيم باشا يتعاطف مع رهبان الكرمل

قرّر محمد علي باشا والي مصر إرسال حملة عسكرية على بلاد الشام بذريعة إعادة عدد من فلاحي مصر الهاربين من دفع الضرائب، فأرسل ابنه ابراهيم باشا على رأس هذه الحملة، فوصلت الحملة إلى حيفا في أواخر عام 1831.

ولما وصل إلى حيفا كان في استقباله مفتشو وقواد الولايات الذين قدِموا من غزة ويافا وبيروت، وكذلك معظم المتسلمين المُعَينين من قبل الدولة العثمانية لجباية الضرائب من السكان. وجعل ابراهيم باشا حيفا مقرًا لقواته ومخزنًا لتموين جيوشه بالذخيرة والمواد الغذائية. وحقق موالاة النابلسيين وأهالي مناطق عكا قبل أن يحتلها وذلك بدعم من أحد كبار أعيان مدينة حيفا عبدالله بك الصلاح. وقام ابراهيم باشا بتوزيع الهوارة على بعض النقاط الحساسة للمحافظة على النظام، ووَصَلَهُ تقرير جاسوسي عن الحالة النفسية في عكا تمهيًدا لتحريك جيشه إليها من حيفا.

وأظهر ابراهيم باشا بإرشادات وتوجيهات والده تعاطفًا مع رهبان دير الكرمل حيث أعفى البنائين من الخدمة في إنشاءات الحكومة في عكا تيمنًا ببركة أهل هذا الدير، كما أنه باشر بترميم استحكامات حيفا لصون المدينة وسكانها من هجمات الأعداء. كما أنه اهتم بتطعيم الأشجار في حيفا وغيرها من مناطق الجليل، كما تفيدنا المصادر التاريخية بهذا الخصوص.

- عبدالله باشا ينال التكريم وينفى إلى مصر

أما مصير عبدالله باشا فكان أنه حضر إلى ابراهيم باشا مُقدّمَاً الطاعة، فأحسن استقباله وكرّمه أفضل تكريم، إلا أنه ظن فيه الظنون فأرسله إلى مصر حيث والده فيها، أي والد ابراهيم باشا وهو محمد علي باشا والي مصر. واستقبله استقبالاً جيدًا وأرسله إلى استنبول، حيث مكث فترة فيها ثم طلب التوجه إلى الحجاز فأذن له السلطان بذلك. وعاد إلى فلسطين لاحقًا، بعد نهاية الحكم المصري، وفق بعض الروايات، علمًا أن بعض من الروايات تشير إلى أن وفاته حصلت في الحجاز. هكذا في المصادر والله أعلم!

- الرهبان يشترون القصر

وإزاء التغييرات السياسية التي حلّت بالبلد، أي ببلاد الشام، توجه رهبان الروم في حيفا بالتماس إلى ابراهيم باشا راجين أن يسمح لهم بابتياع قصر عبدالله باشا ليكون لهم مكانًا مقدسًا في جبل الكرمل يبنون فيه مستقبلاً كنيسة أو ديرًا يصبح محجًّا لأروام حيفا والمنطقة. إلا أن قنصل فرنسا تدخل في هذا الأمر ورجاه أن يُعطي القصر المذكور إلى رهبان اللاتين الكرمليين، وهكذا كان. ولما تسلم رهبان الكرمل القصر قبالة ديرهم الذي باشروا ببنائه من فترة قريبة، ووضع ابراهيم باشا شرطًا عليهم وهو بأن يسكنوا في القصر أي أن يقيموا فيه بشرط أنه متى احتاجت إليه الدولة لعسكرها يسلموه دون تأخير، وذلك لكون الموقع استراتيجي للغاية، كما هو معروف.

- ورثة عبدالله باشا يطالبون بالقصر

بعد أن انتهى الحكم المصري عن سوريا، وانسحبت القوات المصرية من فلسطين، أخذ ورثة عبدالله باشا بالمطالبة بعدد من أملاكه في عكا والقصر فوق جبل الكرمل، إلا أن الدولة العثمانية أرسلت رسائل شديدة اللهجة إليهم بتأثير ونفوذ القنصل الفرنسي في استنبول والقنصل الفرنسي في حيفا بعدم الاستجابة إليهم بالمرة. وطالب القناصل من السلطان بعدم نقل ملكية القصر لغير الرهبان الكرمليين، لكون هذا القصر قد بُني على أرض تعود ملكيتها لهم من عدة قرون. فتنازل الورثة عن القصر جراء هذه الضغوط. وهكذا أصبح رهبان الكرمل مالكين للقصر رسميًّا وبدون معارضين منذ العام 1846.

- الجيش التركي يسيطر على الدير والقصر

ولما اندلعت الحرب العالمية الأولى في عام 1914 استولى الجيش التركي على الدير وممتلكاته وحولها لخدمة مجهوده الحربي. وكان للألمان تأثير بالغ في إخراج الرهبان خوفًا من تعاونهم مع الفرنسيين الذين ـ أي الفرنسيين ـ وفروا لهم مساعدات مالية وسياسية عبر العقود السابقة للحرب. وحُوّلَ الدير إلى مستشفى لخدمة الجنود الجرحى، أما مبنى القصر فجُعِلَ قاعدة حربية تُشرف على خليج عكا وميناء حيفا القديم(كان ميناء حيفا القديم واقعًا قبالة محطة قطار الحجاز في الجهة الشرقية للمدينة). ولحِقَت أضرار جسيمة بالدير جرّاء استعمال الأتراك له بصورة بشعة.

- إعادة اعمار ما هُدم وتضرر

ما أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها حتى باشر رهبان الكرمل ترميم ديرهم وإعادة تشغيله كدير ومعهد للدراسات اللاهوتية والفلسفية. فتولى الراهب لام الكرملي مهام القيام بمشروع الترميم بدعم من فرنسا والحكومة البريطانية في فلسطين. وتم أيضًا ترميم الفنار الذي كان قائمًا من فترة في واجهة القصر قبالة البحر. أما مبنى القصر فخُصص لسكن ودراسة طلاب اللاهوت الذين بدأوا يفدون من دول مختلفة. وفي العام 1926 قرّر الرهبان بناء طابق ثان للقصر وتحسين غرفه، خاصة مد أنابيب المياه واستعماله نُزلاً للحجاج الوافدين إلى الأراضي المقدسة.

- فنار جديد فوق القصر

وتم بناء فنار جديد على أنقاض الفنار القديم خلال بناء الطابق الثاني، بحيث بقي مكانه الأساسي. وتولى "جرمين" قنصل اسبانيا الفخري مسألة إدارة الفنار، وهو أيضًا كان متوليًا إدارة وتشغيل فنارَي صور وصيدا في لبنان من الفترة التركية. وبالمناسبة فإن وثائق تاريخية في مكتبة وأرشيف دير الكرمل تشير إلى أن القنصل جرمين هو الذي أطلق اسم "ستيلا مارس" على موقع قصر عبدالله باشا. ووجه الفنار السفن القادمة إلى ميناء حيفا الجديد الذي أقامه الانجليز في مطلع الثلاثينات من القرن العشرين.

- القصر مقر قيادة مونتغومري

وما أن اندلعت نيران الحرب العالمية الثانية حتى قررت القيادة العسكرية البريطانية في منطقة الشرق الأوسط إلزام رهبان الدير بمنحهم القصر وفق اتفاق ايجار غير محدود زمنيًّا. وللحال اتخذ مونتغومري القائد العام للجبهة في الشرق الأوسط قصر عبدالله مقرًّا لقيادته، وشوهد عدة مرّات يقود سيارته في شوارع حيفا وصولاً إلى القصر حيث يجري إخفاء السيارة في موقف داخلي. وخلال الحرب المذكورة قامت أسراب من الطائرات الايطالية والالمانية بقصف مواقع في حيفا، فخوفًا على موقع القيادة تم تعطيل عمل الفنار.

- الفنار بقي وأهالي حيفا رُحلوا

تمّ تسليم مبنى القصر إلى قيادة الهاغاناه في العام 1948 على يد الانكليز فور انسحابهم من المدينة، وهكذا بسط الجيش الاسرائيلي لاحقًا سيطرته على المكان، الذي لم يتم إعادته إلى رهبان الكرمل إلى يومنا هذا. وللتو تم تثبيت أجهزة رادار ورصد تابعة للجيش الاسرائيلي عند القصر وفوق سطحه. وبقي الفنار مضيئا للسفن في طريق دخولها إلى ميناء حيفا، وحُرم أهالي حيفا المرحلين عن مدينتهم رؤية فنارهم ونوره.

- الفنار بلا نار

ومع مرور الزمن فقد فنار حيفا من نوره ووهجه، مُفسِحًا المجال أمام أجهزة الرادار والتوجيه الالكترونية لتحل مكانه. وهكذا بقي الفنار شكلاً ومظهرًا يشهد على مرحلة تاريخية هامة في تاريخ حيفا والمنطقة، وشوقه إلى نار تعيد الحياة إليه من جديد.



قصر عبدالله باشا بعد ترميمه في الثلاثينات من القرن العشرين


جبل مار الياس ويظهر في طرفه قصر عبدالله والفنار من نهاية القرن التاسع عشر


3/7/2010




® All Rights Reserved, ABNAA' SUHMATA Association
  Best experienced using MS Internet Explorer 6.0, Screen is optimised for viewing at 800 x 600