ساهم موقع حيفا الجغرافي في جعلها قرية ثم مدينة ذات أهمية بالنسبة للمنطقة المحيطة بها. إذ أن قربها من البحر أضاف أهمية فوق ما هو قائم فيها. وبناء عليه فإن حيفا القديمة التي كانت مبنية عند تل السمك(شقمونا) إلى الجنوب الغربي من المدينة الحالية، تكونت من قرابة خمسمائة نسمة في العهد البيزنطي، وكان لها ميناء صيادين صغير للغاية، وكان كافيًا لتأدية وظائفه الضرورية. ولما انتقل موقع حيفا إلى حي "العتيقة" في محطة الكرمل حاليًا، تطور ميناؤها نوعًا ما واتسعت خدماته أكثر وأكثر.
في عهد احتلال الفرنجة لفلسطين(ويُعرف أيضًا باحتلال الصليبيين) تحولت حيفا إلى اقطاعة صغيرة منفصلة عن إمارة الجليل. وقام الفرنجة بإحاطة حيفا بمجموعة من القلاع والحصون لتوفر لها حماية، وكذلك لتوفر حماية لطرق المواصلات بين حيفا وعكا على طول الخط الساحلي بين المدينتين، إضافة إلى توفير حماية للقوافل التجارية البرية الوافدة على ميناء عكا في الأساس لكونه الميناء الأكبر في تلك الفترة. الحصن (أو القلعة) الذي بني بالقرب من أسوار المدينة عند حي محطة الكرمل عُرف بـ"قلعة كيفا"(أي قلعة حيفا). واشتهر ميناء حيفا في ذلك الوقت بكونه ميناء لتصدير منتجات الجليل والمناطق القريبة كحوران إلى اوروبا.
إن تطور شبكة التجارة في المدينة ساهم في توسيع الميناء وتشييد مستودعات في المدينة بالقرب من الميناء تم تخزين الحرير والجلود والقطن تمهيدًا لتصديرها إلى اوروبا. ولكن أثناء حكم عشيرة طرابيه لمنطقة حيفا والساحل الفلسطيني شهدت سواحل المدينة نشاطًا لقراصنة البحر القادمين من جزيرة مالطة، حتى أن حيفا عُرفت بـ "مالطة الصغرى"، لكثرة عمليات القرصنة التي نفذها هؤلاء القراصنة.
إن انتشار ظاهرة القرصنة على ساحل حيفا وصولاً إلى عكا دفعت بالسلطات العثمانية إلى تحصين حيفا مجددًا على امتداد المنطقة من مستشفى الحكومي(رامبام اليوم) وحتى أطراف حي محطة الكرمل شرقًا. هذه الخطوة أدت إلى ازدياد حالات الأمن والأمان في المدينة وبالتالي إلى زيادة في عدد سكانها.
ولما استولى الشيخ ظاهر العمر الزيداني على حيفا ومناطق أخرى في الجليل، سعى أولاً إلى هدم أسوار حيفا العتيقة ونقل موقع المدينة إلى حيفا الجديدة حيث حارة الكنائس ومنطقة المساجد حاليًا، وأحاطها بأسوار وبنى برجًا عند منتصف شارع البرج لُيشرف بواسطته على البحر والمدينة معًا، مما ساهم مساهمة كبيرة في قطع دابر عمليات القرصنة نهائيًا. وبنى إلى الجهة الشرقية للمدينة ميناء مركزيًا شهد تطورات كثيرة حتى بناء الميناء الحالي في موقعه القائم.
مقترحات فرنسية وألمانية وايطالية وهولندية
أول من بادر إلى طرح مشروع بناء ميناء حديث في حيفا كان المهندس الالماني مايسنر باشا واضع أسس مشروع الخط الحديدي الحجازي، وواضع مخطط خط قطار درعا ـ حيفا، وتمحور مشروعه في بناء كاسر أمواج من شاطئء أبو هوام وحتى بوابة بالمر الحالية في الميناء القائم.
ثم بادرت شركة فرنسية في نهاية القرن التاسع عشر إلى تقديم توصيات ببناء ميناء حديث إلى الجهة الشرقية من حيفا الحالية. وقدمت شركة "ألماجيا" الايطالية مشروعًا لبناء ميناء في عام 1911/1912 يمتد من نهر المقطع(قيشون) وحتى محطة سكة حديد الحجاز في شرقي حيفا. وقدمت من بعدها شركة ايطالية أخرى باسم "الشركة الايطالية لبناء الموانئ"، مقترحًا مشابها إنما الإضافة فيه أن تكون فتحة الميناء على البحر على بعد كيلومتر من الميناء، مع تصميم مراسي للسفن داخل الميناء.
وساهمت أيضًا شركة انجليزية باسم "پيرسون" في تقديم مقترحات إلى الحكومة التركية. وكذلك شركة ارمسترونغ البريطانية تقدمت بمشروع لبناء الميناء بواسطة إطالة كاسر الأمواج حتى المحطة الشرقية لسكة الحديد.
وكذلك قدمت شركة "بوس" الهولندية مقترحًا تبني بموجبه كاسرًا للأمواج دون بناء مراسي داخلية. وإنما أضافت الشركة في مقترحها خطة لبناء كاسر أمواج ضخم من رأس الكروم عند طرف مستشفى رامبام وحتى نهر المقطع.
إلا أن الحرب العالمية الأولى حالت دون تحقيق عملية إخراج أحد هذه المشاريع إلى حيز الوجود.
ونستون تشرتشل يأمر ببناء ميناء حديث
طلب تشرتشل وزير مستعمرات المملكة المتحدة في عام 1922 من شركة متخصصة ببناء موانئ تحمل اسم "رندل، پالمر وترتون" بالقيام بعمليات فحص إمكانية بناء ميناء عميق وحديث على ساحل فلسطين. فقام پالمر للتو بزيارة فلسطين ووضع رزمة من المقترحات، وقام أيضًا بجمع مقترحات من الفترة التركية. واقترحت مجموعة من المواقع، إلا أن الرأي رسا على حيفا لكونها تقع في شمالي فلسطين، وتعتبر مخرجًا لمرج ابن عامر الذي يربط بين البلاد السورية عبر الجولان وغور الاردن الشمالي وبين الساحل الفلسطيني، وكذلك لوجود قطار درعا ـ حيفا وهو فرع من الخط الحديدي الحجازي، ولأن بريطانيا تخطط مخرجًا لأنبوب النفط العراقي في حيفا، ولأن موقع حيفا عند حافة خليج طبيعي له ميزات جيدة لتحقيق هذه الغاية. ولكون الموقع يخدم المصالح الاستعمارية للامبراطورية البريطانية. كل هذه العوامل ساهمت في اتخاذ القرار ببناء الميناء حيث هو اليوم.
المؤسسات الصهيونية تقحم أنفها
ولم تقف مؤسسات الحركة الصهيونية مكتوفة الأيدي إزاء مشروع بناء ميناء في حيفا فبادر ريكارد كاوفمان في عام 1926 إلى تقديم مقترح لميناء ضمن خريطة هيكلية شاملة لتطوير مشاريع استثمارية في حيفا وضواحيها. وعبّر كاوفمان عن معارضته لبناء ميناء حيفا في واجهة المدينة لأن ذلك سيؤدي إلى عرقلة تطورها وبالتالي إلى تراكم صعوبات في حركة المواصلات مستقبلا. وكان في رأيه هذا صائبًا، بينما مشروع پالمر لم يأخذ بعين الاعتبار هذه الناحية لأن بريطانيا كدولة منتدبة لم تعر المسألة أهمية. رأى كاوفمان أن يُقام الميناء بعيدًا عن حيفا المدينة ولكن قريبًا من المنطقة الصناعية الآخذة بالنمو. وأخذ بعين الاعتبار مسألة تطور المدينة مستقبلاً، إذ أن مشروع پالمر سيحول دون تحقيق ذلك. ورفض كاوفمان أن يكون الميناء عبارة عن حوض واحد عميق، إنما عبارة عن مجموعة من الأحواض لرسو السفن وفق حمولتها وحجمها.
تمويل بناء الميناء
تقدم المندوب السامي البريطاني هربرت صموئيل بمقترح ميزانية بناء الميناء إلى الحكومة في لندن وأساسها أن تقوم الوكالة اليهودية بتمويل المشروع من منطلقات تعاطفه الجم مع أماني المنظمة الصهيونية ولكونه يهوديًا صهيونيًا في الصميم. واقترح أن يساهم العرب سكان المدينة بواسطة ممثليهم في المجلس البلدي كممثلين في المشروع. إلا أن حكومة لندن رفضت مقترحه هذا، من منطلق عدم منح الحركة الصهيونية كل شيء، وخاصة بوابة فلسطين. وصمّمت بريطانيا على أن يكون تمويل مشروع بناء الميناء من أموال حكومية. وكذلك لتخفف من غضب قيادات الحركة الوطنية الفلسطينية التي بدأت تعي مدى خطورة الزحف الصهيوني على مؤسسات الحكم والاقتصاد في فلسطين.
حجارة الميناء من عتليت
مع بداية تنفيذ المشروع خصصت قطعة من منطقة عتليت لقص وقطع حجارة ضخمة لبناء كاسر الأمواج في الميناء. عملية القطع استمرت بين 1929 و 1932، حيث تمت عملية تعميق الميناء بواسطة ضخ كميات من رمال قعر البحر ورميها على الشاطئ حيث مخطط التجفيف. ونقلت الحجارة بواسطة عربات على خط سكة حديد إلى الميناء. وتطلبت عملية قطع الحجارة أيدي عاملة كثيرة فبدأت تتدفق فرق العمال من قرى ومدن الجليل في الأساس ومن مناطق حوران وشرقي الأردن.
فريدريك پالمر يترك بصماته عميقًا في قرار إقامة الميناء
في التقرير الشامل الذي وضعه پالمر في العام 1923 أشار إلى الموقع الذي يجب أن يقام فيه ميناء حيفا الحديث، وتبنت السلطات الانتدابية توصيته هذه. والواقع أن السياسة الاستراتيجية البريطانية لم تر في حيفا موقعًا وحيدًا، بل رأت أيضًا في توسيع ميناء يافا إذا اقتضت الحاجة إلى ميناء آخر. ولكن بريطانيا لم تسع فعليًا إلى توسيع ميناء يافا، لأنها اكتفت بميناء حيفا، ولأن يافا تحولت إلى أحد أبرز معاقل الثورة الفلسطينية في الثلاثينيات من القرن الماضي.
كانت خطة پالمر بناء كاسر أمواج طويل يتسع تدريجيًا عند مدخل الميناء دون بناء مراسي داخلية، مع تقليص مساحة الكاسر، وذلك لتوفير الأموال في المشروع، إلا أن هذا التوفير كان لسبب في أن الميناء الحالي ذي عرض ضيق يصعب تحرك السفن فيه. ولكن لما تجدد عقد تنفيذ مشروع مد خط أنابيب النفط من كركوك إلى حيفا جرى العمل على توسيع الميناء قليلاً ليوفر إمكانية رسو ناقلات النفط فيه. واقترح پالمر جعل الميناء عميقًا بواسطة حفره واستعمال التراب والحجارة في عملية تجفيف مساحة شاسعة من شاطئ حيفا بين شارع يافا وحتى الميناء الحالي. كانت حافة حيفا عند شارع يافا بالتمام، إذ ضربت الأمواج هذا الشارع الذي انتشرت على طوله شواطئ ومسابح، من أشهرها "شط السيقلي" مقابل قصر السيقلي الكائن إلى يومنا هذا في شارع يافا رقم 25.
وافقت السلطات الانتدابية البريطانية على مقترح مشروع پالمر لكونه الأرخص من بين بقية المقترحات، ولأن هذه الحكومة أرادت التوفير في المصروفات، ولأنها كانت تدرك أنها ستترك فلسطين بعد فترة ، فلِمَ الاستثمار فيها؟! ومن جهة أخرى لم ير پالمر وكذلك ربابنة الانتداب البريطاني بوجود حاجة إلى بناء ميناء كبير ومتقدم أسوة بما هو موجود في اوروبا لأن فلسطين في تلك المرحلة لم تصل بعد إلى مستوى من التطور والتقدم بما يفرض وجود ميناء ضخم.
الميناء وأقسامه
بلغت مساحة الميناء عند إقامته حوالي 360 دونمًا. وافتتح رسميًا في شهر اوكتوبر تشرين أول من العام 1933. وخُصص القسم الشرقي منه كميناء للنفط بسبب وصول خط أنابيب النفط من مدينة كركوك شمالي العراق، وخصص القسم القريب من كاسر الأمواج والملاصق له للميناء العسكري، أما القسم المركزي والمواجه للمدينة فخُصص للمسافرين والخدمات المدنية، أما الجهة الغربية فتُركت فارغة إلى أن جُعِلَت للحاويات بعد إقامة اسرائيل.
الفلسطينيون ودورهم في بناء الميناء
كان مشروع بناء الميناء أحد أبرز المشاريع في دفع آلاف الفلسطينيين من حيفا وخارجها للعمل في منشأة الميناء ثم للعمل في مرافق الميناء بعد افتتاحه. وتمكنت عائلتا " رنو وأبو زيد " من كسب عطاء التفريغ والتحميل في الميناء مما ساهم في رفع مكانة الاقتصاد الفلسطيني ورفع مستوى معيشة أعداد كبيرة من العمال والموظفين العرب الذين عملوا في الميناء أو الشركات التابعة والمرفقة. وكانت منشأة الميناء إحدى المرافق الاقتصادية التي تصارعت فيها القوى العمالية العربية واليهودية بهدف السيطرة على هذا القطاع العمالي ـ الاقتصادي الهام. وكانت الغلبة في معظم الحالات للعمالة العربية الفلسطينية حتى عام 1948 عندما تمّت عملية طرد العرب أهالي حيفا عبر الميناء خارج وطنهم ومدينتهم.
مساهمة الميناء في تطوير مرافق الحياة
لعب ميناء حيفا دورًا مركزيًا في تطوير منشآت اقتصادية وتجارية واجتماعية كثيرة جدًّا. فتوافد العمال للعمل في الميناء ومنشآت أخرى كسكة الحديد والمصانع وهذا ساهم في زيادة عدد سكان المدينة، ومنهم من استقر فيها واتخذها مسكنًا له، وبنى عائلة. هذه العائلات احتاجت إلى مساكن فشهدت الأحياء العربية كحي وادي الصليب والحليصة ووادي النسناس وشارع الزيتون وعباس والكروم ووادي الجمال ازدهارًا وزيادة في عدد البيوت. وهذه الزيادة احتاجت أيضًا إلى مجموعة من الخدمات كالمدارس والمساجد والكنائس والمستوصفات ودور عرض الافلام السينمائية والمسارح، وبالتالي الحاجة إلى مجموعة من الخدمات الثقافية الأخرى كالصحف والنوادي والجمعيات الأهلية والنوادي الرياضية والفرق الكشفية وغيرها... كل هذه ناتجة من تطور مرافق الميناء والسكة والمنطقة الصناعية. ولهذا ارتفع عدد سكان حيفا العرب حتى بلغ عشية النكبة قرابة ثمانين ألفًا. في حين شهد المجتمع اليهودي المهاجر من اوروبا في الأساس حالة من الزيادة السكانية بلغت قرابة ثمانين ألفًا أيضًا. وتمكنت القيادات اليهودية السياسية والاقتصادية من بسط سيطرتها على قطاعات إدارية وصناعية وتجارية واسعة في حيفا تمهيدًا للانقضاض عليها وطرد سكانها العرب الفلسطينيين، سكانها الأصلانيين وتحويلهم إلى لاجئين. وتمت سيطرة اليهود على منشأة الميناء بتواطؤ مع الانجليز.
ثلاث مرحات لبحارة حيفا البواسل
كتب شاعر حيفا الشعبي الشهيد نوح ابراهيم قصيدة باللغة المحكية حملت العنوان أعلاه جاء فيها:
راسمالهم الشهامه مبدأهم الكرامة
معروفين بالشجاعة والبسالة والهمّة
لازم الكل يكافيهم والشعب يشجع ميناهم
وفي وقت الشدة يعينهم مثل ما عانوا الأمّة
تعيش رجال البحرية
بيوتهم نسفوها رجالهم حبّسوها
ما خلوا حيلتهم شي أطفالهم شتتوها
كان هذا وهُمّي صابرين عَ العهود محافظين
إن نادتهم فلسطين بالأرواح بيفدوها
تعيش رجال البحرية
ميناء الطرد ماضيًّا، وميناء العودة مستقبلاً
سفينة الرحيل
بالرغم من أن ميناء حيفا كان أحد أهم مصادر معيشة أهالي حيفا الفلسطينيين إلا أن هذا الميناء حُول أو جُعِل على يد الانجليز المتواطئين والمنظمات اليهودية بوابة خروج ونزوح آلاف الفلسطينيين أبناء المدينة إلى المجهول. حيث رست السفن والبواخر على مختلف أنواعها وجنسياتها: عربية وانجليزية ويهودية وغيرها لتنقل الفلسطينيين الذين تم طردهم من حيفا بواسطة تنفيذ خطتي "المقص"(مسپرايم) و"بيعور حميتس"(حرق الفطير). وهاتان الخطتان تنسجمان بالتمام مع الخطة الكبرى التفصيلية المعروفة بـ "الخطة داليت" التي ساهمت في تفريغ فلسطين من سكانها الأصلانيين وتطهيرها عرقيًا.
هنا في ميناء حيفا نُفذت أكبر عملية تطهير عرقي وطرد شهدتها فلسطين عبر تاريخها. وأصبح أهالي حيفا لاجئين في أوطان مجاورة، لا ترحمهم السماء ولا تشفق عليهم الأرض. كانوا أصحاب وطن وأملاك ومواقع وأصحاب ثقافة وحضارة راقية، فحُولوا بفعل مشروع إبادي إلى فاقدي وطن وباحثين عن لقمة العيش والبقاء.
ويبقى ميناء حيفا الشاهد الأخير على النكبة الفلسطينية. والأمل في أن يكون هذا الميناء هو بوابة العودة لأبناء حيفا وفلسطين.
جندي انجليزي يساعد عائلة فلسطينية في تحميل بعض حاجاتها تمهيدا للترحيل
جندي انجليزي يُشرف على ترحيل فلسطينيي حيفا عبر الميناء
20/5/2010
® All Rights Reserved, ABNAA' SUHMATA Association
Best experienced using
MS Internet Explorer 6.0, Screen is optimised for viewing at 800 x 600