"المدينة الفلسطينية في فترة الانتداب البريطاني"
عن دار الرعاة للدراسات ـ رام الله ودار اليازوري العلمية ـ عمّان صدر كتاب "المدينة الفلسطينية في فترة الانتداب البريطاني"(تطورات وتحولات اجتماعية واقتصادية وثقافية ـ حيفا نموذجًا) من تأليف الدكتور جوني منصور.
ويحاول كاتب هذه الدراسة رؤية التحولات والتغيرات التي عصفت بالمدينة الفلسطينية في ميادين مختلفة سواء كانت اقتصادية واجتماعية وثقافية وغيرها، وبصورة مركزة في فترة زمنية محدودة مداها حوالي الثلاثين سنة، أي منذ الاحتلال البريطاني لفلسطين في العام 1918 وحتى نهاية هذا الانتداب في عام 1948.
لحيفا وجهان
وفي واقع الأمر أن المدينة الفلسطينية قد مرت في ظروف متغيرة كثيرة خلال الفترة المشار إليها، ففي الوقت الذي تأثرت فيه من النظام البريطاني ـ الغربي الوافد عليها، فإنها ـ أي المدينة الفلسطينية قد تأثرت بموجات الهجرة اليهودية التي وصلت إلى فلسطين في الفترة ذاتها التي تتمحور حولها الدراسة. وخاصة الحديث عن مدينة حيفا التي شهدت تطورات وتحولات كثيرة جدا اعتمادا على كونها مدينة ساحلية وفيها مرفأ، أي منفذ بحري ربطها بصورة مباشرة مع العالم الخارجي، وبالتالي كانت سرعة المؤثرات عليها أكبر من المدن الداخلية التي احتفظت بمكوناتها التقليدية وهيئتها الظاهرية إلى فترة طويلة.
من مدينة صغيرة إلى كبيرة
أما الداعي إلى اختيار حيفا نموذجا للمدينة الفلسطينية التي شهدت موجات من التحولات والتغيرات في بنيتها وشكلها وتوجهاتها الأدائية (الوظيفية) لكونها ـ أي حيفا ـ تمثل سلسلة مركزية من التحولات والتغيرات التي كانت من نصيبها. فمن مدينة صغيرة وهامشية الدور والوظيفة حتى مطلع القرن العشرين إلى مدينة صناعية ومركز اقتصادي مهم بالمنظورين البريطاني والصهيوني. ورأى الفلسطينيون أهمية الدور الذي تلعبه المدينة الفلسطينية، وحيفا على وجه الخصوص، فلجأوا إلى المساهمة الفعالة في بناءها وتطويرها بكافة المجالات.
وهذه الدراسة هي تأسيسية من حيث كونها تطرح أفكارًا وتصورات لشكل المدينة الفلسطينية زمن الانتداب البريطاني. ولكونها ـ أي الدراسة ـ تتيح مساحة أكبر من البحث المستقبلي لظاهرة نمو المدينة الفلسطينية.
مكونات الدراسة(الكتاب)
تتكون الدراسة من مدخل يستعرض أهمية الأحداث التاريخية في تكوين الوعي التاريخي والانساني لدى الفلسطيني خاصة والعربي عامة لمواجهة التحديات والتغيرات التي عصفت وتعصف بمجتمعه ومدينته. ويلي المدخل فصول تحتوي على نماذج ومركبات ومكونات المدينة: الاجتماعية والتعليمية والثقافية والرياضية والصحافية وغيرها للدلالة على شمولية الرؤية لدى أبناء المدينة. وأرفق المؤلف للكتاب مجموعة من الصور الخاصة بحدث النكبة الفلسطينية وخاصة ما حل بحيفا في عام 1948.
الوعي الذاتي هو دراسة تأسيسية
إن وعي الفرد العربي عامة والفلسطيني خاصة لتاريخه وتطورات حياته ومكوناتها، يدفعه إلى فهم أسس حياته اليومية والتغيرات التي تحصل عليها، والمؤثرات التي تؤثر عليها. وهذا الوعي هو في حد ذاته عبارة عن دراسة ذاتية لبنيته وتحركاته دون الاعتماد على دراسات اخرى مصدرة إليه تبني وعيه في مسار يتوافق مع مصدريها الذين يملكون أجنداتهم الخاصة وغاياتهم الموجهة والمقصودة.
تطور المدينة من الفترة التركية إلى الانتدابية
لقد تأثرت المدينة الفلسطينية بالتغيرات التي طرأت عليها، وحدثت التغيرات جراء سلسلة من المشاريع التنموية والإنشائية التي نُفِذّت فيها سواء كان ذلك في نهاية العهد التركي أو خلال فترة الانتداب البريطاني. ومن بين المشاريع الكبرى التي أثرت على حيفا ولعبت دورا في بناء مجتمع مديني معاصر في حيفا: مد الخط الحديدي الحجازي من سوريا إلى حيفا عبر مدينة درعا السورية، وهذا الخط ربط بين الداخل السوري والساحل الفلسطيني، وبالتالي منح الحركة التجارية فرصة التطور والتقدم والازدهار. وساهم هذا الخط الحديدي في تشجيع حركة الهجرة الداخلية في المناطق السورية باتجاه حيفا.
ولم يكن مشروع الخط الحديدي بمعزل عن مشروع آخر بدأته الحكومة التركية المحلية والعامة وهو إقامة منشأة ميناء جديد في حيفا لتعميق النشاط التجاري مع الخارج الاوروبي. وساهم هذا المشروع مساهمة كبيرة في تطوير مرافق خدمية متعددة في المدينة ورفع من مستوى أدائها العام، ونعني هنا المتاجر والفنادق والمقاهي والمطاعم والمحلات التجارية والمواقع السياحية والمؤسسات التعليمية والترفيهية التي بدأت تتأسس وتنتشر في ارجاء مختلفة من المدينة.
حيفا، مركز المشروع الاستعماري البريطاني في البحر المتوسط
من جهة أخرى فإن حيفا قد شهدت طفرة سريعة وقوية من التحولات والتغيرات خلال فترة الانتداب البريطاني حيث أن السياسة الانجليزية كانت جعل حيفا مركزا لمشروعها الاستعماري في الشرق الاوسط ، ومنه تبسط سيطرتها على مجمل المنطقة العربية وتسيطر على ثروات ومقدرات الشرق العربي الطبيعية والبشرية(الأسواق التجارية).
ميناء حيفا وما وراءه
ومن هذا المنطلق الاستعماري رأت الحكومة البريطانية إقامة ميناء حديث في حيفا(وهو القائم اليوم)، وجعلته منفذا مركزيا للبحر المتوسط. ومن جهة أخرى سهلت الحكومية البريطانية على الوكالة اليهودية والحركة الصهيونية استخدام ميناء حيفا موطئ قدم أولي لموجات الهجرة اليهودية التي بدأت تفد إلى فلسطين من أوروبا بأعداد كبيرة تطبيقا للمشروع الصهيوني الهادف إلى إقامة دولة يهودية على الأرض الفلسطينية من خلال تفريغ فلسطين من سكانها الأصليين وتهجيرهم والسيطرة على ممتلكاتهم وإحلال مهاجرين يهود وغير يهود محلهم، وبالتالي تلعب الحركة الصهيونية دورا مركزيا في بناء قاعدة استيطانية في فلسطين لخدمة المركز الأم ـ أي بريطانيا ـ في ذلك الوقت ، وحاليا الولايات المتحدة الامريكية.
سيطرة اليهود على قمم الكرمل
واستفاد المجتمع اليهودي من حيفا كمدينة مفتوحة ومنفتحة نحو حضارات متعددة وأقاموا لهم أحياء في مختلف أرجائها وخاصة على المرتفعات العليا من جبل الكرمل. وكذلك اقاموا لهم مؤسسات تربوية وتعليمية مركزية كالتخنيون، ومستشفيات ومصانع ومشاغل وغيرها، وكل هذا في حركة منفصلة عن المجتمع الاصلاني في حيفا، أي المجتمع الفلسطيني، وهذا معناه جعل حيفا موقعا لتحقيق مشروع الاستيطان الكولونيالي استجابة إلى مشاريع بريطانيا الكولونيالية.
بالرغم من الصراع...
وبالرغم من تعمق أسس الصراع السياسي بين الحركة الصهيونية الاستيطانية والحركة الوطنية الفلسطينية إلا أن الفلسطينيين قد عرفوا كيفية الاستفادة من المجتمع اليهودي، خاصة في قطاعات معينة فيها أسس خدمية وتطور. وكان من ابرزها ان المجتمع اليهودي المهاجر من اوروبا قد أحضر معه مكونات متطورة في ميادين الاقتصاد والمجتمع والثقافة، وهذه دون أدنى شك قد تركت وراءها مؤثرات فاعلة.
بلورة شخصية المدينة الفلسطينية
وبالرغم من تعددية التكوين الاجتماعي للمدينة الفلسطينية الساحلية كحيفا ويافا، إلا أن المجتمع الفلسطيني سعى إلى بلورة شخصيته المدنية والحضارية من خلال بناء وجه جديد مع الاحتفاظ بالموروث التاريخي والحضاري الفلسطيني. وللتوضيح، فإن الفلسطيني العائش في المدينة في تعرضه وانكشافه لمكونات حضارية معاصرة لم يرفضها بل تقبلها بما يتناسب وتوجهاته الحياتية والفكرية، مع محافظته على قسط كبير من موروثه الحضاري. وهذا ما يميز الفلسطيني المدني في تبنيه مركبات مدنية حديثة ومعاصرة ولكن دون التخلي بالكلية عما كسبه من خبرة وتجربة الماضي.
السير نحو الاستقلالية الذاتية
ونتيجة للصراع السياسي بين الصهيونية والحركة الوطنية الفلسطينية في حيفا وسواها من مدن ومناطق فلسطين، فإن بروز وجوه سياسية واقتصادية واجتماعية وادارية ومهنية في المدينة الفلسطينية قدم تجربة ايجابية لقدرة المجتمع الفلسطيني على تكوين ذاته والحصول على الخدمات الاساسية التي يحتاجها مكتفيا بنفسه. أي ان المجتمع العربي الفلسطيني في ظل الصراع واشتداده سار نحو استقلالية اجتماعية واقتصادية(في حدود معينة) وثقافية حددت معالمه لفترة زمنية طويلة حتى نهاية الانتداب في مرحلة أولى، ثم ما احتفظ به هذا المجتمع في مخزونه التاريخي بعد تدمير المدينة الفلسطينية على يد العصابات العسكرية الصهيونية في العام 1948.
أعلام، ومؤسسات، ومرافق مثار فخر واعتزاز
ويقدم الكتاب مجموعة كبيرة بل مطولة من اسماء شخصيات وأعلام من حيفا أصلا أو وفدوا إلى حيفا خلال فترة الانتداب البريطاني من كافة مناطق البلاد السورية والعربية للمساهمة في بناء المدينة الفلسطينية وتوفير خدمات أساسية لأهاليها. فعدد الأطباء مثير للدهشة في مدينة ناشئة، وكذلك العاملين في الرعاية الصحية كالممرضات والقابلات القانونيات، والصيادلة. أضف إلى اسماء محرري الصحف الصادرة في حيفا ومراسليها وكتبتها، وكذلك العدد الكبير والضخم للجمعيات الأهلية التي وفرت خدمات متنوعة للمنتسبين إليها، والمسارح ودور عرض الافلام(السينما) والحركات الكشفية والمؤسسات التعليمية والتربوية والنوادي الرياضية على انواعها، وقدوم فرق تمثيلية ومطربين ومغنين عرب من مصر وسوريا وشعراء من كل الاقطار العربية كخليل مطران ومحمد مهدي الجواهري ومحمد عبد الوهاب وفريد الاطرش وشقيقته اسمهان ويوسف وهبي ونجيب الريحاني وغيرهم، تدفعنا هذه كلها بكل قوة إلى الوقوف لحظات متفكرين كيف أن مجتمعا فلسطينيا وخلال فترة زمنية قصيرة نسبيا تمكن من الوصول إلى مستوى راق من القواعد والمقاييس الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
المدينة الفلسطينية، مشهد حضاري رائع
باعتقادنا أن المشهد الحضاري الذي وفرته حيفا خلال فترة الانتداب ليثير العجب ويقوي الاعتزاز والفخر بأهل المدينة الفلسطينية لما قدمته من عطاء ومساهمة لتطوير المدينة الفلسطينية وجعلها تتبوأ مكانة مرموقة إلى جانب مدن أخرى لم تعش مآسي ومعاناة كما عاشتها هذه المدينة.
تدمير المدينة الفلسطينية: مخططٌ مقصود
لقد كان لحدث النكبة أثره البالغ في إحداث زعزعة على مبنى المدينة الفلسطينية بشكل عام، وعلى حيفا بشكل خاص. إذ اختفت حيفا العربية وأُبيدت في العام 1948 على يد عصابة الهاغاناه تلبية وتحقيقا لمشروع صهيوني يقضي بإبادة المدينة الفلسطينية وتحويل الفلسطينيين إلى ريفيين لا يملكون من أسس ومعايير المدينية شيئا.
وفي حقيقة الأمر أن عملية تنظيف حيفا من أهلها الفلسطينيين لم تأتي بمبادرة منهم بالمطلق، كيف يمكن لمن بنى مدينته وبيته ووطنه أن يتركه ويهجره بالسهولة التي توصفها الأدبيات الصهيونية؟ إن الحقيقة المرة والموجعة أن المخطط الصهيوني هو الذي احتوى على مشروع إبادة وإزالة ومسح المدينة الفلسطينية، بما فيها حيفا، بل على رأسها حيفا لما تتمتع به من مكانة استراتيجية واقتصادية وسياسية.
وماذا بعد؟!
إن هذه الدراسة تفتح الباب على مصراعيه لإعادة البحث والتنقيب في التغيرات والتحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي لحقت بالمدينة الفلسطينية خلال فترة الانتداب البريطاني، وما يتوجب علينا كأبناء لهذه المدينة أن نقوم به للحفاظ على ما تبقى فيها من معالم عربية عمرانية وموروث إنساني ليبقى شيء للذاكرة والذكرى والواقع.
20/11/2008
|
|