"مطران العرب" ـ رجل العمل وحب الوطن - جوني منصور


يبحث كل شعب في العالم عن تكوين رموز له لتذكره بحدث مفصلي معين ترك أثر فيهم. والرموز التي يتوجب على شعبنا التعرف عليها والتمثل بها هي من أعلام وشخصيات الحركة الوطنية الفلسطينية. حيث إن عددًا من هؤلاء الأعلام بذل جل جهده في سبيل نُصرة ودعم القضية الفلسطينية بكل مركباتها السياسية والاجتماعية والثقافية والاجتماعية على مرّ عقود طويلة من الزمن. وأحيانا أبحروا عكس التيار وفقط من أجل صون الأرض والشعب، إلا أن الظروف التاريخية كانت أقوى منهم ومن كثيرين غيرهم من قيادات وزعامات الأمة العربية من الخليج وحتى المحيط.
وسنعود من خلال هذا المقال إلى ذاكرة التاريخ وبالتحديد إلى الصفحة ناصعة البياض التي خطت فيها معالم حياة وأعمال أحد البارزين والمناضلين في سبيل خير الأمة والدفاع عن الإنسان الفلسطيني ابن هذه الأرض وهذا الوطن، ألا وهو المطران غريغوريوس حجّار، الذي يُعرف بلسان شعبنا بـ "مطران العرب".

* إلى أين وجهته؟

ولد بشارة حجار في عام 1875 في بلدة روم قضاء جزين في لبنان. وعاش حياة عادية وسط أسرته المتواضعة. ولما بلغ سن الرشد أخذت مواضيع كثيرة تشده لبناء مستقبله، هل يميل إلى التجارة؟ أم إلى الدراسة؟ أم إلى الكهنوت؟ أم إلى شيء لم يكتشف سره بعد؟ أسئلة كثيرة عصفت بدماغه وقلبه، واحتار جدا.

* نحو دير المخلص قرب صيدا

أوصلته أمه إلى دير المخلص بتأثير وتشجيع أحد الآباء المقربين من العائلة إيمانا منها بأن ولدها يجب أن يقوم بخدمة الكنيسة والشعب ليرفع من كرامة الناس ومكانتهم الإنسانية في زمن تراجعت فيه قيمة الإنسان وعصفت بالشرق رياح التخلّف وموجات من المؤثرات الغربية التي تركت أثرها بالغا على وضعية المجتمعات المشرقية على مختلف تكويناتها الاجتماعية ومذاهبها الدينية.
وتلقى في الدير كل أسس التعليم الديني وتدرب على الخدمة الإنسانية والاجتماعية، ولما أصبح جاهزًا للشروع بتأدية الرسالة سيم كاهنا في عام 1897، ثم عين نائبا بطريركيا لأبرشية عكا في عام 1899 عقب وفاة أسقفها المطران اثناسيوس صباغ.

* بناء الحجر وبناء البشر

تسلم الحجار ابرشية عكا نائبا أسقفيا ثم مطرانا أصيلا في العام 1901 وباشر بتفقد رعايا الأبرشية كافة، وقد أُوكلت إليه أيضًا قرى ومدن شرقي الأردن، فغدت مسئولياته كثيرة وحمله ثقيل، إلا أنه لم يتأفف مطلقًا لأنه جدير بالمسئولية وله قدرة على التدبير والتوجيه والقيادة.
ووجد أن قرى ومدن الجليل فقيرة للغاية وتعاني من نقص في الكنائس والمدارس والمؤسسات الخدمية، وللحال وضع خطة تفصيلية تضمنت عدة مشاريع من بينها بناء كنائس في القرى التي لا تتوفر فيها، وتأسيس مدرسة في كل قرية مهما بلغ عدد سكانها، وأن تكون هذه المدرسة مفتوحة أمام كل أبناء الشعب الفلسطيني ومن كافة المناطق، وخير مثال على ذلك تلك المدرسة التي أقامها وطورها في قرية البصّة شمالي البلاد والتي حملت الاسم التالي"المدرسة الأسقفية الوطنية"، والتي ألتحق بها عدد كبير من التلامذة من حيفا وشفاعمرو واقرث وفسوطة وطولكرم وجنين وقلقيلية والرملة واللد ويافا وترشيحا والبقيعة وغيرها، حتى غدت إلى أهم وابرز مدرسة في المنطقة قاطبة. وأحضر عددا من معلميها من لبنان وسوريا وفي فترة معينة مارس مصريون مهمة التدريس فيها. ونافست هذه المدرسة على وجه الخصوص كبريات المدارس في فلسطين، في فترة ندرت فيها المدارس. وشكلت هذه المدرسة معلما وطنيا وعلميا من الدرجة الأولى والمتقدمة جدا.
وكذلك، فإنه طور المدرسة الاسقفية في حيفا على أن بلغت أعلى المستويات من حيث توفير كافة برامج التعليم والأنشطة المدرسية والاجتماعية والثقافية، وانضوى تحت لواء هذه المدرسة عدد كبير من شباب حيفا وعدد من القرى المحيطة بها، وهؤلاء أصبحوا عماد المجتمع العربي الفلسطيني لاحقا، مقدمين خدمات جليلة لوطنهم وشعبهم. وبقيت المدرسة في حيفا تعمل بجد ونشاط إلى ما بعد نكبة العام 1948 التي حلت بالشعب الفلسطيني وشتته، وكذا حصل في حيفا. وأغلقت في مطلع الستينات إلى أن تم تجديدها في مطلع العام الدراسي الحالي 2009 بهمة المطران الياس شقور وعدد من رجال التعليم والثقافة والخدمة الاجتماعية.
وقام أيضا بتطوير المدرسة الأسقفية في شفاعمرو لتقدم كافة الخدمات التعليمية والتثقيفية التي يحتاج إليها الشباب ليكونوا أسس المجتمع في المستقبل، وما تزال المدرسة قائمة تعمل بكل إخلاص على توفير العلم لأبناء شفاعمرو من الابتدائية وصولا إلى المرحلة الثانوية.
وشيد الحجار كنائس في حيفا وشفاعمرو وترشيحا وفسوطة والجش ومعلول وسيرين وسخنين وغيرها وفي عجلون وجرش واربد شرقي الاردن. وكذلك شيد مساكن للكهنة ليوفر لهم الإقامة الكريمة وليتفرغوا للخدمة الروحية والإنسانية على مختلف أوجهها.
هذه المشاريع العمرانية ما كانت لتنجح لولا همة ونشاط المطران حجار، الذي لم يكن يملك في جيبه قرشا واحدا، غير أن شخصيته البارزة والمؤثرة، وخطابته البليغة تركت أثرها في نفوس كثيرين من أبناء الشعب في فلسطين وخارجها ليقدموا ما تجود به نفوسهم من تبرعات كريمة ساهمت في تحقيق بناء هذه المشاريع.

* حضور وطني ملفت

شارك المطران حجار في كل النشاطات الوطنية من سياسية واجتماعية وثقافية، وخاصة أن فلسطين كانت تمر في فترة حرجة للغاية من صراع خطير بين أبناء فلسطين الأصليين وبين المهاجرين اليهود الذين هاجروا إلى فلسطين من كل أقطاب الدنيا ليقيموا لهم كيانا على ارض الفلسطينيين، وكان هذا معناه تطبيق مشروع اقتلاع وترحيل الفلسطينيين وإحلال مهاجرين غرباء عن الوطن مكانهم. وتشكلت الأحزاب والحركات والهيئات السياسية للدفاع عن فلسطين، وتجند عدد كبير من أبناء الشعب الفلسطيني للدفاع عن فلسطين وشعبها وتاريخها وأرضها وصونا لإنسانها ابن هذه الأرض ومن صلبها. وكان في مقدمة المدافعين عن الأرض الفلسطينية والإنسان الفلسطيني المطران حجار، فلم يترك مناسبة أو فرصة إلا وعبر من خلالها عن موقفه من وحدة فلسطين أرضًا وشعبًا، رافضًا كل أشكال التقسيم والتمزيق، ونوه بشدة إلى المخاطر التي سيتعرض إليها الفلسطينيون إن هم قبلوا بتقسيم بلادهم.
ولم يألُ جهدًا في رفع قضية فلسطين وشعبها إلى أعلى المحافل الدولية بما له من اتصالات وعلاقات وصداقات شخصية وسياسية ودينية. وعرض القضية الفلسطينية في لقاءات رجال الدين المسيحيين في روما وباريس وبيروت مُشكلاً حراكًا سياسيًا وإنسانيًا قويًا لنقل صورة واضحة عن أن قضية الشعب الفلسطيني هي قضية كل العرب، بل هي قضية كل أصحاب الضمائر الحية، إذ كيف يصمت العالم عن عملية اقتلاع شعب عن أرضه ووطنه وإحلال آخرين تم تجميعهم بطرق ملتوية من كل أصقاع العالم وأطرافه؟! وعبّر بمواقفه عن حقيقة العدل الذي يجب أن يتمسك به كل إنسان محب لوطنه، وأن يسعى إلى إحقاق هذا العدل مهما كلف الثمن.

* شهادته أمام اللجنة الملكية البريطانية

قدم المطران حجار عدة شهادات أمام لجان تحقيق رسمية ومهنية وصلت إلى فلسطين في أعقاب أحداث دموية أو ثورات وغيرها، ومن أبرز الشهادات التي قدمها كانت تلك أمام اللجنة الملكية البريطانية والتي تعرف بـ "لجنة بيل" في العام 1937. والشهادة في واقع الأمر عبارة عن دراسة مستفيضة لواقع فلسطين وشعبها وتطلعات هذا الشعب نحو مستقبله وعلاقاته مع الآخرين وكيفية التعاطي مع المستجدات. وعبر من خلال هذه الشهادة عن ارتباطه بفلسطين وحبه لهذا الوطن الذي غدا وطنه الثاني بعد لبنان، بل وطنه الأول، وأن الشعب الفلسطيني مسالم، إلا أنه طموح ومستعد لبذل الذات من أجل الدفاع عن فلسطين وحماية أراضيها. وعبر أيضا في شهادته هذه عن رؤيته كرجل دين مسيحي عربي ابن هذه المنطقة وليس غريبا عنها، وأن القضية الفلسطينية هي قضية كل عربي مسلمًا كان أم مسيحيًا. وأشار إلى العلاقات القوية والروابط الوطيدة التي تجمع الفلسطينيين كافة من كل فئات ومكونات الشعب. ومما ورد في شهادته هذه نقتبس ما يلي:"إن في ظل الخلافة الإسلامية كان المسيحيون يقاسمون إخوانهم المسلمين المحاكم ومجالس الإدارة والمجالس البلدية مناصفة بعدد متساو وبدون نظر إلى أقلية او أكثرية فنابلس وعكا وجنين وصفد وغيرها على قلة المسيحيين فيها كانت الحكومة العثمانية تمنحهم حق التساوي مع إخوانهم المسلمين". وأضاف قائلاً:"العنصر العربي الفلسطيني يضم مسلمي ومسيحيي فلسطين وغيرهم من ذوي المذاهب الأخرى الذين تجمع بينهم روابط الدم واللغة، وأن الفلسطينيين العرب متحدرون من سكان فلسطين الأصليين الذين توطنوا هذه البلاد من آلاف السنين قبل اليهود".

* الانفتاح على الغير

كانت منهجية عمل وتعاطي المطران حجار مع شأن الساعة مؤسسة على انفتاح كبير متميز، بحيث كان يناقش قضايا مصيرية بوجهة نظر وطنية ثاقبة مبنية على حقوق الإنسان الفلسطيني، وعلى قبول الغير بكونهم جزء لا يتجزأ من المجتمع العربي الفلسطيني ومكون مركزي من مكوناته الاجتماعية والثقافية. وفي واقع الأمر أن هذا الانفتاح ساهم مساهمة كبيرة في لعب دور سياسي واجتماعي وتعليمي لرفع مستوى معيشة المجتمع كافة. إن مفهوم الانفتاح لدى المطران حجار غير مقتصر على المعاملات إنما على التعاون الواسع المبني على فهم الواقع ورسم خطة العمل المستقبلية.

* حب الوطن

لا اعتقد أن أحدا تغنى بحب الوطن كما تغنى به المطران حجار، إذ أوفى قسطه من هذا الحب في أروع كلمات وأبهى عبارات قائلا في خطبة له متميزة:" آه يا فلسطين ما أحبَك إلى قلبي وما أجملك في نظري وما أقدسك في فمي، أيها الوطن المُفدّى إنني أحبُّك بجمالك ووهادك، بمروجك ووعورك، بخريفك وربيعك، بشتائك وصيفك، أحبك سواء تجهمت سماؤك أو ابتسمت كواكبها من خلال صفائها، أحبُّك في محنتك وأحبك في هنائك، أحبُّك في غنيك يبسط يده بسخاء وأحبك في فقيرك يعمل بجد ونفس ذات إباء، أحبك في شيوخك وقد جللهم وقار الشيب وسطعت من أدمغتهم أنوار الحكم، وأحبك في شبابك المفتول السواعد وقد اتقدت من بين أضلاعهم نيران الهمم... أحبك في فلاحك يشق الأرض بمحراثه ليودع في أحشائها بذار آماله، ويحصدها خيرات يفيضها على الإنسانية جمعاء محسنا كبيرا تدين له كل مراتبها ملكا ومملوكا غنيا وفقيرا، فما أعظم الفلاح!...".

* نهاية رجل شجاع وكبير

كان المطران حجار عائدًا من القدس حيث عمل لخير أبناء شعبه بالتوسط لدى رجالات السياسة في حكومة الانتداب لإطلاق سراح شباب عربي عشية عيد الفطر السعيد، ولما وصل إلى مشارف حيفا الجنوبية بالقرب من حي وادي الجمال صدمت سيارته عربة خيل فخرج سائقه ونائبه العام لاستطلاع الأمر، ولما تأخرا خرج المطران أيضا وإذ بسيارة تصدمه وتطرحه أرضًا مضرجًا بدمائه، نُقل على أثرها إلى مستشفى الحكومي إلا أنه لفظ أنفاسه في مثل هذا اليوم أي 30 تشرين أول من العام 1940. ودفن المطران حجار في كنيسة السيدة بحيفا. ويعتبر مثالا ورمزًا من أبرز رموز هذا الوطن. وسيُحتفل في العام القادم بذكرى مرور سبعين عامًا على رحيله، لذا نهيبُ بكل من لديه صورة أو وثيقة أو مستند يساعدنا في إلقاء مزيد من الأضواء على سيرة حياة هذا الرجل أن يرسلها إلينا مشكورًا.



6/11/2009




® All Rights Reserved, ABNAA' SUHMATA Association
  Best experienced using MS Internet Explorer 6.0, Screen is optimised for viewing at 800 x 600