على الطريق اعتذار مزدوج - طلال سلمان

لم يكن يملك من »السلاح« إلا قلمه... لكن الاحتلال كسر الأقلام وأيدي أصحابها، إلا تلك التي تكتب له فتمتدحه وتبرّر الخيانة وتروّج لها.

عند المدخل جرّدوه إلا من قلبه... ودخل القاعة المصفحة وهو يعرف أن كل العراق، بل كل العالم، والأميركيين على وجه الخصوص، يتابعون وقائع »زيارة الوداع«، وينتظرون أو يأملون أن يسمعوا صوت العراق الذبيح!

اختار موقعه وسط الحشد البوليسي في مواجهة المنصة الرئاسية مباشرة. انتظر حتى استرخى العسس مطمئنين إلى سيطرتهم المطلقة، وساد الصمت لكي يسمع الجميع منتحل صفة »كليم الله« وهو يبشّر مَن دمّر لهم دولتهم ومستقبلهم وحقهم في الحياة.

للحظة، أحس أنه كل العراقيين، بعربهم وكردهم، بالأشوريين والكلدان واليزيديين والصابئة.. وأحس بإرادتهم تزخم صدره وتسري في عروقه وتمده بالقدرة على مواجهة نيرون الاحتلال في عينيه.

لم يكن لديه سلاح. حتى قلمه مكسور. فكّر، قرّر ونفّذ: يليق الحذاء بهذا السفاح العنصري والذي انتدب نفسه لإكمال الحروب الصليبية.

كان لديه أقل من دقيقة لتنفيذ المهمة: استذكر وجوه أهله الذين دُفنوا أحياء، وأصدقاءه الذين تناثرت أشلاؤهم فصبغت أرض السواد بالأحمر القاني. عادت إلى خاطره صور الأطفال الذين عرفوا اليتم قبل أن يعرفوا آباءهم والأمهات. فكّر بآلاف المعتقلين الذين سيموا سوء العذاب. استذكر صور الكلاب وهي تنهش أجساد شباب العراق بينما جنود بوش الأشاوس يستمتعون وينتشون وتأخذهم الإثارة مآخذ شتى.

دهمته صور عشرات الآلاف ممن شرّدوا فهاموا على وجوههم في رمال الصحارى أو اتخذوا غابات النخيل مأوى وملاذاً، أو تكأكأوا على كواهل بعضهم البعض وهم يمشون بلا هدف، أملاً بالحصول على ملجأ يقيهم حر الصيف وبرد الشتاء وعلى كسرة خبز وزجاجة حليب للطفل الذي نهنهه البكاء، هم أبناء أرض السواد، بلاد ما بين النهرين، مبدعو أول حضارة إنسانية، أحفاد حمورابي والحسين وهارون الرشيد والأمين والمأمون والمعتصم وثورة العشرين والمقاومة المفتوح مداها حتى التحرير.

كان لديه أقل من دقيقة، والطاغوت أمامه مباشرة، يحيط به مَن والوه على شعبهم فاعتمدهم وكلاء: خلع الحذاء بحذر شديد. أمسك »بالفردة« الأولى فأطلقها بكل عنفوانه الجريح، بكل كرامته المأسورة، ثم تعجّل إطلاق »الفردة« الثانية. أحنى الطاغوت رأسه للحذاء المطهّر بتراب أرض الشهادة، فلم يصب مباشرة... لكن القذيفتين أصابتا كل ما يرمز إليه وكل من يحيط به من ياوريه وعبيده.

... وحين انقضّ عليه العسس والمخبرون والبوليس السري وعملاء السي آي آي والكلاب البوليسية ورعاتها، كان مشغولاً بلوم نفسه عن عدم تحقيق إصابة مباشرة في وجه الطاغوت.

وهو نادم على أمر واحد فقط: أنه ونتيجة التسرّع قد أهان الكلب... ولكم يود لو أنه استطاع أن يعتذر عن الخطأ الذي استولده الغضب والتسرّع ووجوه أولئك المحتشدين من حول سيدهم الأميركي لإيهامه أنهم إنما يحمونه من شعبهم العراقي الأسير.

ولسوف ننتظرك أيها »المنتظر« وقد أنجزت... وسيأتي بعدك آلاف الآلاف ليكملوا المرحلة المظفرة في قلب الصعب إلى تحرير العراق بإعادته إلى هويته الأصلية.

عن السفير

19/12/2008






® All Rights Reserved, ABNAA' SUHMATA Association
  Best experienced using MS Internet Explorer 6.0, Screen is optimised for viewing at 800 x 600