منازل مشتاقة إلى أهلها - بقلم: جوني منصور
بيوت ومنازل عربية كثيرة في حيفا تعيش منذ العام 1948 بلوعة وحسرة وأمل في الوقت ذاته، منتظرة عودة أهلها وأصحابها إليها. هؤلاء الأهل الذين عطروا بدمائهم وجهادهم الحياتي من اجل بناء مسكن يأوون إليه ليجدوا الدفء والحنان فيه، لم يحالفهم الحظ بنيل هذا المكسب، بل تحولوا إلى لاجئين ومشردين عراة وحفاة منتشرين في كل بقاع واصقاع المعمورة. بينما القادمون من وراء البحر وجدوا هذه البيوت عامرة بأثاثها وفراشها وخيراتها، فاحتلوها بالقوة والعنف وسلبوها وسكنوها دون تعب او جهد أو عناء.
ننتقل في هذه المقالة الموجزة إلى منازل تنتظر أحبتها، في منطقة من أجمل مناطق وحارات حيفا العربية، إنها بيوت علية القوم في حيفا. وتقودنا رحلتنا إلى شارع البرج ابتداء من الرقم 9 وحتى الرقم 17 حيث تمتد بيوت من الحجر الابيض المدقوق جيدا، والشرفات التي تعلو الطوابق العليا مطلة على ميناء حيفا الجميل وخليجها البديع.
عاشت في هذه البيوت عائلات رشيد الحاج ابراهيم والرئيس عبد الرحمن الحاج وعائلة كنفاني والمفتي محمد مراد وغيرها من الأُسر الكريمة التي ساهمت مساهمة جليلة جدا في بناء حيفا العربية مدينة متقدمة ومتطورة تتطلع إلى مستقبلها بعيون أبنائها.
شارع البرج حامي حيفا
يقع شارع البرج بين منطقتي الهادار حيث الحي اليهودي في حيفا وبين حي وادي الصليب والبلدة القديمة. وكان الشارع عبارة عن تلة تشرف على المدينة خالية من السكن، وعرة بالتمام سوى بعض البيوت الصغيرة المتناثرة هنا وهناك. ولما اتسعت المدينة داخل الاسوار والتي بناها الشيخ ظاهر العمر الزيداني في عام 1761 واختنقت شوارعها الضيقة وأزّقتها، انطلقت العائلات العربية نحو الشرق والغرب لبناء منازلها الرحبة والفسيحة. وكانت منطقة البرج مَحَطّ أنظار الكثيرين من عائلات حيفا العربية الميسورة. وفي أعلى الشارع على الطرف اليمين للصاعد من البلد إلى الهادار شيّد ظاهر العمر برجا لحراسة مدينته والاشرف على مينائها منعا لاقتراب القراصنة الذين اقلقوا راحة السكان وشكلوا خطرا كبيرا على الحركة التجارية التي بدأت حيفا تنعم بها في عهد هذا الحاكم.
ولما انتهى الحكم التركي عن فلسطين عامة وعن حيفا خاصة بدأ الاهلون بمشاريع بناء دورهم في طرف الشارع المطل على الميناء وعلى حي وادي الصليب في الوقت ذاته.
مدفع البرج
ومن بين العائلات المشهورة التي ابتنت لها دارا هناك عائلة كنفاني، وهي فرع للعائلة العكية التي انجبت الشهيد غسان كنفاني أحد أبرز الادباء الفلسطينيين في القرن العشرين وصاحب القصة المشهورة "عائد إلى حيفا". دار هذه العائلة في شارع البرج رقم 15. وما تزال الدار قائمة خالية وفارغة تنتظر أهلها ليعودوا إليها وتعود معهم نفحات الحياة والفرح والسعادة. وكتب أحد ابناء هذه العائلة وهو عبد للطيف كنفاني ذكرياته عن بيته وحاكورته وشرفته وجيرانه. وعبد اللطيف من مواليد عام 1926، معنى ذلك ان ذاكرته عن فترة ما قبل النكبة قوية وغنية وتفصيلية، وهذا ما نلمسه من خلال كتابه الهام هذا. ويصف لنا المدفع على النحو التالي:"في التلة بقايا مدافع ميدان ضخمة المانية الصنع ذات فوهات غاية في الطول خلّفها الجيش التركي لدى انسحابه من المدينة بعد أن استعملها في رمايات هادرة على جحافل الجيش البريطاني المتقدمة باتجاه حيفا عند نهر المقطّع... مدفع رمضان كان منصوبا على مقربة من تلك الهياكل الحديدية الضخمة وكان على صغر حجمه يصمّ الآذان عند انطلاقة عبوته في مواعيد الافطار والسحور والامساك في شهر رمضان المبارك وايام الأعياد. أذكر كيف كنا نقف على شرفة بيتنا نرقب مؤذن جامع الجرينة يُلّوح بالعلم من أعلى المئذنة المضاءة إيذانًا بأزوف موعد الافطار فنسارع إلى وضع أصابعنا على آذاننا اتقاء الدوي وما هي إلا لحظة حتى تسمع حيفا كلها صداه بكل أحيائها ونواحيها. عندما اتسعت المدينة لاحقا وامتدت كان لا بد من مدفع آخر نُصِبَ في منطقة الحلقة(الحليصة) التي انتشر فيها العمران وازدادت كثافتها السكانية بشكل ملحوظ".(ص 20 وص 21).
العمران يجتاح تلة البرج
كانت تلة البرج خالية كما اشرنا، واعتبرت منطقة وعرية وبعيدة نوعا ما عن مركز الحياة في المدينة، حيث الحركة والتجارة ونشاطات الناس. وكانت حيفا داخل الاسوار، وخارجها قليلا وليس بعيدا عنها، عصب الحياة لهذه المدينة الواعدة والمتطلعة بشغف نحو مزيد من التقدم والتطور والإزدهار.
ويصف عبد اللطيف كنفاني مسيرة بناء والده لدارهم بقوله:"عندما ابتاع والدنا الدار على كتف تلة البرج في مطلع القرن(العشرين) كانت الحواكير من حولها مرتعا للضباع وبنات آوى كما يروون، وكانت السكنى في تلك الناحية مغامرة في حد ذاتها. ولكن سرعان ما زحف العمران صُعدًا وقامت على جانب من الشارع مبان جميلة من الحجر الابيض المقصوب".(ص22). وعملت مجموعات كبيرة من العمال والحجارين في نقر لصخور في التلة حتى تبسيطها إلى أن اصبح بالميسور تشييد المباني التي ما يزال عدد كبير منها قائما إلى يومنا هذا.
منزل رشيد الحاج ابراهيم
الراغب في زيارة الموقع لن يجد هذا المنزل إذ هدمته بلدية حيفا بذريعة أنه يشكل خطرا على المحيطين به، علما ان هذا الادعاء لا يمت إلى الواقع بصلة، حيث شهدت بأم عيني جودة البناء ونوعية الحجر التي تألفت منها العمارة، مما يؤكد صمودها إلى اجيال طويلة. وكان رشيد الحاج ابراهيم من زعماء حيفا ومن المدافعين عنها في عام 1948. وترأس إدارة البنك العربي فيها، وأسس جمعيات وصحف كثيرة، ولعب دورا اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا مركزيا في تشكيل صورة ومضمون المدينة العربية في حيفا، وتعرض لملاحقات سلطات الانتداب البريطانية بما فيها نفيه إلى جزر سيشيل.
منزل عبد الرحمن الحاج
يقع بالقرب من منزل عائلة كنفاني ملاصقا بالتمام لدرج اربد الهابط من شارع البرج إلى حي وادي الصليب بالقرب من قصر مصطفى الباشا خليل وحمام الباشا. اشغل عبد الرحمن الحاج منصب رئيس بلدية حيفا بين 1920 و 1927. وكان من عائلة ثرية امتلكت أراض واسعة في قرى كفر لام وعين غزال والطيرة الواقعة إلى الجنوب من حيفا، وكذلك لها عقارات واملاك في حيفا العربية داخل الاسوار، أي البلدة القديمة. وقام بتنفيذ سلسلة من المشاريع التطويرية لحيفا، خاصة تزويد المدينة بشبكة الانارة الكهربائية وشق الطرقات الواسعة وحفر شبكات الصرف على انواعها. وكان له نشاط اجتماعي وسياسي، إذ أن له مواقف وطنية مُشرّفة دفاعا عن الانسان الفلسطيني والارض الفلسطينية. واهتم بأعمال الخير والمبرات وتقديم المساعدة للمحتاجين من مختلف فئات المجتمع الحيفاوي، وحتى أنه بذل جهودا في توفير مساعدات مالية وغذائية لمنكوبين في غزة جراء الفيضانات التي اصابت المدينة في شتاء 1946. وتوفى في السنة ذاتها مخلفا ورائه ذكرا طيبا وإرثا حميدًا.
منزل عائلة كنفاني
يقع هذا المنزل في شارع البرج رقم 15. والمنزل جزء من دار مؤلفة من عدة طوابق بحيث ان الطابقين الارضي والاول يقعان تحت مستوى الشارع على منحدرات التلة باتجاه البحر وحي وادي الصليب. ويصف كنفاني داره بتعابير رقيقة وجميلة مليئة بالحنو والشوق إلى العودة إليها لكونها شكلت شخصيته وصاغت رؤيته الانسانية والاجتماعية، يكتب:"دارنا هذه كانت وطني الاول، وطنا حقيقيا من تراب حقيقي التصقتُ به والتصقَ بي. إحتك بجلدي ودخلت ذراته تحت اظافري، واختلطت بشعري وتسللت إلى ثنايا ملابسي... بيت الأمة كما الدارج في التسمية، ضمّنا في حناياه أنا واخوتي وأخواتي ولكل واحد منا بصمات خلفها في ارجاء البيت. الأرجاء تلك حاكورة واسعة انتشرت فيها اشجار الصنوبر والكينا والسرو. هناك شجرة الزنزلخت الحانية على جدار إحدى غرف النوم وعلى مقربة منها شجرة كازورينا توزعت من حولها شجيرات صبار افرنجي بينما عريشة "الجميلة" تُظللُ مدخل الدار مُرصّعةً ابدا بورودها القرمزية تحيط بها احواض زنبق وشجرة ياسمين. في الساحة الخارجية للمطبخ شجرة رمان وحيدة. كم كنا نبتهج عندما كانت تحمل كوزا أو كوزين، فما كان ألذ ثمر الدار".(ص 16).
منزلُ ملتقى اعلام السياسة
كانت منازل هذا الشارع بكاملها ملتقى لرجال السياسة والعمل الاجتماعي في حيفا وبقية اجزاء فلسطين. والقضية الفلسطينية اصبحت الشغل الشاغل لرشيد الحاج ابراهيم وعبد الرحمن الحاج والمفتي محمد مراد وحسن كنفاني وغيرهم. وفي المناسبات الاجتماعية كانت تعقد في دار كنفاني أسوة ببقية دور جيرانهم لقاءات تضم شخصيات فلسطينية ولبنانية تتداول الشأن السياسي والحراك المطلوب من هذه الشخصيات. يكتب كنفاني واصفا ملامح من هذه اللقاءات:"خلال تلك اللقاءات كانت تتساقط على مسامعنا نحن الصغار كلمات وأسماء وعبارات لم نكن نفهم لها معنى. هذا رشيد الحاج ابراهيم يستفيض في الحديث عن "اللامركزية" وعن مؤتمر سان ريمو. أحمد حلمي باشا ورشدي بك الشوا وصدر الدين عاشور وحنا نقارة وانس الخمرة ووديع البستاني وفريد السعد وعلي بزّي وغيرهم ما دار لهم حديث سوى عن الانتداب المقيت وعن الثورة والثوار.
لقاء النساء يُكمل الدائرة
بالرغم من ان دور النساء السياسي كان ضيقا إلا أن دورهن في المجال الاجتماعي كانت له فعالية، خاصة في مجال اللقاءات المنزلية لتدعيم اواصر العلاقات بين ابناء المدينة الواحدة بل الحي الواحد. وعقدت في منازل عائلات شارع البرج لقاءات نسائية متبادلة وبشكل دوري. "كانت سيدات المجتمع يتبادلن الزيارات بموجب برنامج متفق عليه في كل مجموعة من الأسر. الوالدة أم خليل (والدة عبد اللطيف كنفاني) كان يوم استقبالها هو الاربعاء من كل اسبوع، في فصل الشتاء كما في فصل الصيف، وما بينهما، إلا عندما كانت تغيب عن حيفا في زيارة إلى لبنان أو بلد مجاور. تتوافد النسوة الى الزيارة بعد الظهيرة بقليل ويمكثن إلى ما بعد المغيب. بداية كانت تُدار أكؤس الشربات المثلجة صيفا تفوح منها رائحة المزهر والماورد. وشتاء تدار اقداح الشاي البلورية المزخرفة تُملأ من سماور روسي الصنع. ختامًا يأتي دور القهوة التي لا بد ولا غنى عنها إذ يليها الفتح بالفنجان تتولاه قارئات للطالع ذاع صيتهن بهذا المضمار.... بعد كل ذلك يجيء دور الغناء والطرب والرقص، عود ودربكة ودف ورقص وقفش عالتقيل".
خليل كنفاني شهيد شارع البرج
لما اشتدت العمليات الارهابية التي قامت بها منظمة الهاغاناه بغية تهجير الفلسطينيين من سكان حيفا، والسطو على ممتلكاتهم، قررت عائلة كنفاني الانتقال إلى منطقة أكثر أمنا بعيدا عن قذائف الهاغاناه التي لم تعرف الصمت ولو للحظة. وكان الاختيار السكن مؤقتا في عكا حيث الاقارب، أما خليل حسن كنفاني شقيق عبد اللطيف الاكبر فانتقل إلى حي محطة الكرمل لكونه اقرب الى عمله. وكان خليل يعمل نائبا لمدير البنك العربي في حيفا، والمدير هو رشيد الحاج ابراهيم. وفي احد الايام لما كان خليل في طريقه صباحا لشراء الخبز لاولاده اصابته رصاصة غادرة اودت بحياته، مخلفا ثلاثة ابناء صغار، ودفن في عكا.
منزل مفتي حيفا الشيخ محمد مراد
منزله بالقرب من منزل عبد الرحمن الحاج، ودعي الدرج المؤدي إليه باسمه "درج المفتي". والمفتي درس في الازهر بالقاهرة وتخرج منه. وشارك في البعثة العلمية المؤلفة من العلماء والادباء في سوريا والتي نظمها جمال باشا (الملقب بالسفاح) في ايلول عام 1915، للسفر الى العاصمة استنبول لتأييد السلطان وحكومته. والمفتي عضو في المجلس الاسلامي. ترأس بعثة اسلامية خاصة جالت في أطراف الهند عام 1923 لجمع تبرعات من اجل ترميم المسجد الاقصى المبارك في القدس. وترأس بعثة مماثلة في العام ذاته اتجهت نحو الديار الحجازية لجمع التبرعات. وكان هذا المفتي من ابرز نشيطي المجتمع الحيفاوي حيث شارك في كثير من اللقاءات بين مختلف الطوائف التي كونت نسيج المجتمع.
الزاوية الشاذلية
اتخذت الحركة الصوفية المعروفة بـ "الشاذلية" مقرا لها دارا واسعة الارجاء على طرف درج عجلون القريب من دار عائلة كنفاني، وعُرف هذا الدرج بـ "درج الشاذلية". واستقطبت الزاوية نشاطات دينية وصوفية ومحاضرات وندوات ذات صلة بالموضوع. وتحول مبنى الزاوية إلى هدف لرماية القناصة اليهود من شارع سيركين وكذلك تعرض المبنى الى قصف بالقذائف من مدفعية الهاغاناه الموجودة في الهادار وحي شارع هاشومير. وهذا الدرج يُفضي إلى حي وادي الصليب حيث حمام الباشا. وعاشت في طرف هذا الدرج عند اسفله عائلة عمر شرقاوي الذي عمل موظفا في دائرة التلغراف القريبة من الحي. وفي إحدى مباني درج عجلون اتخذ أعضاء "نادي انصار الفضيلة" مقرا لنشاطاتهم الثقافية والاجتماعية.
المدرسة الاسلامية
وتعرف هذه المدرسة بـ "مدرسة البرج" وهي من اقدم واعرق مدارس حيفا. المبنى واقع على الجهة اليسرى للصاعد في شارع البرج(تحول اسم شارع البرج الى شارع "معاليه هشحرور"). وكانت بديعة التصميم من حيث عمرانها، وذات مستوى تعليمي راق من حيث مناهجها التدريسية والتربوية. وكانت الجمعية الاسلامية تُشرف على امور ادارتها والصرف عليها. وكانت الجمعية تجند خيرة معلمي فلسطين للعمل فيها، واحيانا كثيرة كانت تُحضر معلميها من لبنان وسوريا، بما فيهم مديروها على مر الاجيال.
دواعي وضع كتاب شارع البرج 15
يبدو جليا الشوق الذي غمر قلب وعقل عبداللطيف كنفاني، خاصة وان ذكرياته ما زالت تحركه شوقا إلى منزله. وكان شقيقه كمال قد حضر إلى حيفا في مطلع التسعينات وحصل على كتابي "شوارع حيفا العربية" فأرسله هدية إلى عبداللطيف في بيروت، ومنه انطلقت عملية كتابة الذكريات تحت العنوان أعلاه. ولم يفت عبداللطيف ان يذكر كاتبا خبرة اخيه كمال بزيارة حيفا ومنزل العائلة على النحو التالي:"عجيب امر هذه الدنيا. أخي كمال الذي كان قد غادر حيفا الى الولايات المتحدة الاميركية قبل سنة من اندلاع القتال وسقوط المدينة وذلك لمتابعة دراسته العليا في جامعة سيراكيوز، عاد إلى البلاد بتبعيته الاميركية بعد ما يقرب من خمس واربعين عاما. وبينما هو يتأمل الاطلال الدارسة من البيت العتيق علمت بوجوده امرأة يهودية تسكن واسرتها ما تبقى من الدار. ولما عرفت انه ابن اصحاب الدار الاصليين بادرته بالسؤال عمّا هو فاعل في أمر تسرّب الماء من سقف المنزل في الايام الماطرة. حقا يا لسخرية الاقدار، كأني بهؤلاء الغرباء يعترفون في قرارة انفسهم بعدم شرعية استيلائهم على الديار المغتصبة".
21/11/2008
|
|