|
دبِّرهَا يا مِستِر "دِل"
بقلم: جوني منصور*
30/11/2007
|
جوني منصور |
واجه الفلسطينيون التحولات التاريخية التي ألمت بهم بكل ما لديهم من إمكانات وقدرات، خاصة في الظروف المصيرية كالثورة الفلسطينية في الثلاثينات والانتفاضات القريبة والبعيدة زمنيًا.
ومن بين المساهمات الهامة في مواجهة التحديات والتحولات كان الشعر الشعبي. وظهر على مسرح الشعر الشعبي عشرات الشعراء الذين ساهموا بواسطة هذا الفن في توفير صورة واضحة المعالم عمّا كان يجري في مجتمعهم، وما يأمل به الفلسطينيون لتحقيق استقلالهم وتثبيت وجودهم والتصدي لأعدائهم.
ومن ابرز هؤلاء الشعراء كان نوح ابراهيم. فنوح لم يكن مجرد شاعر شعبي بل ثوري كبير تتلمذ على يد عز الدين القسّام، ورافقه ثم تابع مسيرة الثورة بطريقته الخاصة مازجا بين الشعر وبين الكفاح من أجل العِزّة والكرامة. وأدرك نوح ابراهيم حجم المأساة الفلسطينية القادمة، وبِحِسّه الوطني فَهِمَ أنه إذا بقي عدم الاكتراث مُسيطرًا على نفوس الناس فستضيع فلسطين، لهذا نراهُ قد شَمّرَ عن سواعده وعن قلمه وكلماته من أجل خدمة قضية عادلة آمن بصدقها بكل جوارحه.
شاعرنا نوح ابراهيم هو موضوع هذا المقال.
ولد في عام 1913 في وادي النسناس
ولد نوح ابراهيم في شارع وادي النسناس رقم 30. وترعرع في هذا الحي وتلقن أسس حب الأرض والمجتمع بالرغم من أنه تيتم من والده وهو طفل صغير. فأرسلته أمه إلى المدرسة الاسلامية في وادي الصليب لتلقي العلوم الأساسية. ثم اهتمت به في المدرسة الاسكتلندية السيدة سمبل. وكانت القضية الفلسطينية تُشغل باله وهو على مقاعد الدراسة، فترك الصف الخامس الابتدائي وبدأ يعمل في إحدى المطابع في حيفا، فتعرف من خلال المطبوعات على كثير مما كان يجري في حيفا العربية، وما كانت تقوم به الحركة الوطنية الفلسطينية وهي بعد في بداياتها.
مشاركة في الفعاليات الوطنية والادبية
بالرغم من انه ترك المدرسة الابتدائية باكرًا إلا أنه ربط حياته اليومية بكل تفاصيل الأحداث والنشاطات والفعاليات التي كانت تتم في حيفا وسواها من المدن الفلسطينية الأخرى. فشارك في المحاضرات الأدبية والسياسية. وأيضا في المظاهرات السياسية. وكذلك في الحركات الكشفية ومنظمات العمال التي كانت تدافع عن العمال وتدعو إلى منحهم الحقوق المهنية والإنسانية. وبدأ يميل إلى الأدب الشعبي، خاصة الشعر، فوجد فيه ملجأ يُعبّر فيه عن مكنونات قلبه وخفايا أفكاره وطموحاته الشخصية والوطنية.
تلميذ في مدرسة القسّام
التحق نوح ابراهيم بمدرسة القسّام النضالية والكفاحية في حيفا، حيث كانت الحركة الوطنية في غمرة تكوينها وبلورة خطوطها الأساسية في تنظيم مسيرتها ورؤيتها المستقبلية. ولما استشهد عز الدين القسّام في موقعة أحراش يعبد وضع قصيدته "يا خسارة يا عز الدين" المُغَنَاة بصوته، والتي لاقت رواجًا في فلسطين وخارجها:
عز الدين يا خسارتك |
رُحِتْ فِدا لأمتكْ |
مين بينكر شهامتك |
يا شهيد فلسطين |
عز الدين يا مرحومْ |
موتك درس للعُموم |
أه لــو كنـت تــدوم |
يا رئيس المجاهدين |
إقروا الفاتحة يا إخوان |
على روح شُهدا الأوطان |
وسجل عندَك يا زمان |
كل واحد منا عز الدين |
يكتب ويلحن ويغني وينشر اسطوانات
غريب نوح هذا، إذ أنه كان يكتب أغانيه ويلحنها غالبا بألحان شعبية معروفة لتسهيل حفظها، ويقوم بطبعها على اسطوانات ويبيعها بنفسه، ويعود ريعها على الثورة والعائلات المتضررة من هجمات وتعديات الانكليز واليهود على الفلسطينيين. ولاقت اسطواناته رواجا كبيرا في فلسطين وخارجها، حتى أنها نافست اسطوانات مشاهير المغنين العرب كعبد الوهاب وأم كلثوم.
دواوين شعر ومذكرات ولمّا يتجاوز الخمس وعشرين عاما
وغريب أيضا أن يبادر شاب في بدايات حياته وبناء مستقبله الحياتي بتضحية كبيرة بنفسه وماله وما لديه، ولا شيء كان لديه سوى حبه لوطنه ورغبته العميقة في تعميق الانتماء ورفض الإنخذال. فقام بنشر عدة دواوين من شعره الشعبي على حسابه الخاص ووزعها في كافة أنحاء الوطن، حتى أن الرقابة التابعة للاستخبارات البريطانية أصدرت بيانات بمنع توزيع دواوينه لأنها تشكل خطرا على الأمن وهدوء المواطنين والنظام العام، على حدّ ادّعاءها.
دروس في السجن
تعرض نوح ابراهيم لسلسلة من المضايقات والملاحقات والاتهامات من قبل الاحتلال البريطاني، فزُجّ به في معتقل المزرعة ثم في سجن عكا الشهير بعمليات التعذيب. وهو في السجن وضع مجموعة كبيرة من القصائد الشعرية التي تناقلتها الألسن في كل مكان، وما زال كثيرون يُغنون بعضًا من قصائده هذه.
عروستي .. بارودتي
كتب نوح ابراهيم في مذكراته عن مشاعره وأحاسيسه كشاب، ولكن يظهر أن فلسطين حبيبته كانت أقوى من أن يُحب فتاة أسوة ببقية الشباب. وعندما كانوا يُمازحونه بأنهم يبحثون له عن فتاة، كان يجيبهم حالا: عروستي.. بارودتي!!
|
نوح إبراهيم |
الوحدة الوطنية أولا
آمن نوح ابراهيم بأن الوحدة الوطنية تبدأ من صُلب العمال والفلاحين والصيادين، وهي أساس نجاح كل شعب في تحقيق أحلامه وطموحاته، ولما أحسّ، كغيره من الوطنيين، من أن هناك أيدٍ تتلاعب بالطائفية وإثارة النعرات المذهبية أسرع إلى نشر قصيدة رائعة حول ضرورة تماسك أبناء الشعب الواحد مُتخذًا تضامن بحّارة يافا نموذجا لهذه الغاية، وكأنهُ يدعونا اليوم إلى تحقيق هذا الحلم:
تحيى رجال البحرية |
من إسلام ومسيحيه |
بحرية يافا البواسل |
أصحاب الهمة العليه |
بيوتهـم نسفــوها |
رجالهم حبسوها |
ما خلو حيلتهم شيء |
أطفالهم شتتوها |
كُل هادا وهُمّي صابرين |
عالعُهود محافظين |
وإنْ نادَتهُمْ فلسطين |
بالأرواح بيفدوُهَا |
|
|
.. أمّا الوطن للجميع
قصيدة أخرى يدعو فيها نوح إلى تعميق جذور الوحدة الوطنية والابتعاد عمّا يُفرّق والتقرب مِمّا يُوَحّد. فيُغني للوطن ووحدة أبناءه:
المسلم والمسيحي |
إتحادهم قوي ومنيع |
والدين والمذهب لله |
أما الوطن للجميع |
لا تقول مسيحي ومسلم |
كُلنا إخوة من فرد دم |
مهما تحكي وتقدِّمْ |
آدم أبونا وحوّا الأم |
وكل واحد يكون فاهم |
اتحادنا قوي ومنيع |
والدين والمذهب لله |
أما الوطن للجميع |
رايتنا راية عربية |
من إسلام ومسيحية |
غايتنا وحدة قومية |
مطلبنا مجد وحرية |
دَبِرهَا يا مِستِر "دِل"
المستر "دِل" هو ضابط انكليزي مُدير غرفة العمليات والاستخبارات العسكرية، كُلّف بالمشاركة في إخماد الثورة الفلسطينية لإفساح المجال أمام العصابات اليهودية بتقوية ذاتها والتهيُيء لِمَا هو قادم. أي أن الخطة المشتركة البريطانية واليهودية تسديد ضربة قاسمة للحركة الثورية الفلسطينية والقضاء عليها لتصبح الطريق مُمهدةً أمام تحقيق المشروع الصهيوني بإقامة الدولة اليهودية في فلسطين. والتقى نوح ابراهيم بهذا الضابط بعد خروجه من الاعتقال وأهداه نسخة من اسطوانته التي غنّى فيها أغنيته المشهورة التي تحمل اسم هذا الضابط. وأظهر الضابط فرحته وإعجابه بالأغنية بعد أن تُرجمت له، وبِما فعلهُ الثوار من صمودٍ وتحدٍ. كتبَ نوح يقول:
يا حضرة القائد "دِل" |
لا تظُنْ الأمـة بتمِـلْ |
لكن إنتِِ سايرهــا |
يمكن على ايدك بتحِلْ |
فهّم لندن باللـي صار |
واللي بعدو راح يصير |
العـرب أُمـة أحرار |
صداقتها لازمتكو كتير |
إن كنت عاوز يا جنرال |
بالقوة تغـير هالحـال |
لازم تعتـقـد أكـيـد |
طلبك صعب من المُحال |
لكن خـدها بالحـكمة |
واعطينا الثمن يا خـال |
ونفّـذ شروط الأمـة |
من حرية واستـقـلال |
دبرها يا مستر "دِل" |
يمكن على ايدك بتحلْ |
فلاح يا ابن بلادي
دعا شاعرنا الفلاح الفلسطيني إلى التمسك بأرضه وعدم التفريط بها، ودعاه أيضا إلى مواجهة سماسرة الأراضي الذين لم يبيعوا الأرض فقط إنما العرض. وآمن شاعرنا بدور الفلاح في بناء أسس الوطن والحضارة الإنسانية، فكتب أغنية شعبية جاء فيها:
فلاح اسمع نصيحتي |
فلاح تربح بذمتي |
خليك صبور لا تكون مقهور |
خاطرك مجبور يا ابن بلادي |
فلاح اهتم بأرضك |
فلاح لا تنسى فرضك |
بايدك كنوز اجتهد تفوز |
أحسن ما تعوز با ابن بلادي |
فلاح حافظ عالوطن |
فلاح إصحى وتركِنْ |
سبب الفساد إوعى تِنقاد |
بابن الامجاد يا ابن بلادي |
فلاح كلامي ختامي |
فلاح إصحى الندامه |
خليك عفيف بتحيا شريف |
بتموت شريف يا ابن بلادي |
رفض فكرة تقسيم فلسطين
نزلت فكرة تقسيم فلسطين التي دعت إليها اللجنة الملكية البريطانية نزول الصاعقة على الفلسطينيين، لأن مشروع هذه الفكرة سيُفقدهم أجزاء كبيرة من وطنهم الغالي. وستؤدي الفكرة إلى تشتيت آلاف العائلات الفلسطينية، إضافة إلى ترحيل (ترانسفير) آلاف أخرى من مواقع سكناها إلى مواقع أخرى. فاستل قلمه ورفع صوته داعيا إلى رفض هذه الفكرة من أساسها:
عم تِفتِكروا بحل جديد |
ما بتنَفَذ بالتأكيد؟! |
أما مشروع التقسيم؟ |
مرفوض وفاشل وبعيد |
سمعنا عزمتو النيه |
على طريقة جهنمية |
تاخدوا القدس وبيت لحم؟ |
وحيفا تكون دولية |
وتُحشروا العرب بأميم!! |
والساحل للصهيونية؟؟ |
تحيا المرأة العربية
رأى نوح ابراهيم أن للمرأة العربية عامة والفلسطينية خاصة دورا رياديا في دعم الثورة والكفاح من أجل البقاء في الوطن. ورأى أن دورها لا يقتصر على الواجبات البيتية إنما في تربية الشباب والنضال جنبا إلى جنب الرجل، وهذه رؤية متقدمة في ذلك الوقت. واعتقد نوح أن دور المرأة مهم في رفع شأن المجتمع بكليته. ويروي قصة شاهدها في قرية عصيرة في منطقة نابلس حول دور امرأة وبسالتها في فترة الثورة. وتكريما وتقديرا لدورها ومكانتها، كتب قصيدة رائعة مغناة:
قصة شاهدتها بالذات |
من امرأة قروية |
حُرمه كبيرة في البلد |
ما إلها مُعين أحد |
زوجها خلّف لها ولد |
تعِزُه معزّه قوية |
الشاب طلع للجبال |
مع الثوار الأبطال |
ولما نظر الأهوال |
انسحب بصورة خفية |
طرق الباب جاوبَتْ |
قال لها ابنها حَضَرتْ |
صاحت فيه اخجل كذبت |
قصدك تموه عليّ |
ابني عربي نسل اشراف |
من الموت لا يخاف |
وبَختهُ بكلام جاف |
وصاحت صيحة مُضَريه |
استلم اخطر مواقع |
ما عاد يهاب المدافع |
وصار يهاجم ويدافع |
بالصفوف الأمامية |
انتهت المعركة يا أحرار |
وانتصرت فيها الثوار |
وهكذا شاءت الأقدار |
هالشاب يروح ضحية |
اسمعوا يا أهل الهِمّه |
خصوصا نساء هالأمة |
حيُّوا جميعكم هالحُرمه |
إم النخوة والحمية |
ملايكة الرحمة هالنرسات
أُدخلَ إلى مستشفى الحكومة في حيفا وأجرى له جراح المستشفى الشهير الدكتور نايف حمزة عملية جراحية، واعتنت به الممرضات عناية خاصة، فشكرا لجميلهن كتب قصيدة رائعة، جاء فيها:
في مَتل ساير كتير |
نيّال معين الفقير |
وللنرسات فضل كبير |
ياما انقذوا الوفات |
ملايكة الرحمة هالنرسات |
ياما انقذوا بالتأكيد |
كل واحد مرضو شديد |
حتى رجع كالحديد& |
وقاموا بأكبر واجبات |
ملايكة الرحمة هالنرسات |
موصوفات بين الناس |
عملهن برفع الراس |
هني الركن والساس |
في كل المستشفيات |
ملايكة الرحمة هالنرسات |
الاستشهاد من اجل الوطن والأرض
استمرت القوات البريطانية ترافقها فرق من الهاغاناه بمداهمة مواقع ومعاقل الثوار الفلسطينيين في الجليل وأحراش يعبد لتصفية المقاومة الفلسطينية وتشتيت من تبقى من دعاة التحرر والتخلص من الاستعمار الأجنبي، فقامت بتاريخ 18/10/1938قوة عسكرية بريطانية مدعومة بأسراب من طائرات سلاح الجو الملكي البريطاني بمحاصرة مجموعة من الثوار الفلسطينيين كان من بينهم نوح ابراهيم وقتلتهم بالقرب من طمرة وألقت بجثثهم في بئر ماء كي لا تجرى لهم جنازة، إلا أن أهالي قرية طمرة الجليلية الموصوفين بالشهامة وحب الوطن والإنسان أبوا إلا دفنهم بكرامة، فدفنوهم بعد إخراجهم من البئر بصورة سرية منعا لمعارضة الانكليز. ثم بادر مجلس محلي طمرة ولجنة إحياء ذكرى الشهيد نوح ابراهيم في عام 1986 بإزاحة الستار عن ضريح هذا الشاعر الشعبي الوطني والثائر والوفي لوطنه وأرضه وشعبه.
سبعون عاما لاستشهاده في العام القادم، ما المطلوب!
تصادف السنة القادمة ذكرى استشهاد نوح ابراهيم السبعين، وأيضا مرور ستين عاما على النكبة، لذا يتوجب على أهالي حيفا وطمرة وغيرها من القرى والبلدات العربية في الجليل خاصة وفلسطين عامة ومن هم في اللجوء والشتات، إحياء ذكرى هذا الشاعر بنشر دواوين شعره، والبحث عن اسطوانات أغانيه الأصلية وإعادة طبعها وفق التقنيات الحديثة، وتنظيم مهرجان خاص للشعر الشعبي الخاص بتاريخ فلسطين، تبرز من خلاله قصائد شاعرنا نوح ابراهيم.
الشاعر الشعبي نوح ابراهيم مثال صادق للوفاء والانتماء، بل إنه مدرسة ميدانية لحب الأرض والوطن والإنسان، والتمسك بالأخلاق الحميدة التي نحتاج غليها في عصرنا الحاضر لنقوي وجودنا ونُعمّق ارتباطنا بهذه الأرض.
* د. جوني منصور ـ مؤرخ فلسطيني مقيم في حيفا.
|