وعندما وصلت داري ابت تفاصيلها ان تنام، فأقعدتني معها ليال تقص لي عن سحماتا وعن اخواتها الـ 418.
تحدثت الذاكرة وروت لي قصة سحماتا، بحثت عن سبب السبات الطويل الذي ألم ببعض من ابناء شعبي ومنعهم عن الخروج من قبور الذاكرة. فتبين لي ان القصة مؤلمة، ليس فيها للعربي من فخر وبطولات، مليئة بالخوف والارهاب، مشبعة بالدم ورائحة القتلى. تئن بصرخات الاطفال والنساء المسنين. وتحققت بأنسحماتا الضحية دفنت حية، تتخبط بحشرجة دامت 50 عاما. روت لي سحماتا قصتها وقصة اخواتها، وهنا كانت المفاجأة، ليس فقط في العدد والكم، بل في الاسلوب وحنكة التخطيط. فهمت سكوتهم وسكت. اصبت بكآبة مريرة وحقد صارم. وما كدت اعتقد ان القصة انتهت واذا بالمفاجأة الكبرى. فتساءلت: كيف للقاتل ان يرحم الضحية اذا كان احد ابنائها.، يسرق منها حذاءها وعقودها الجميلة؟! روت لي سحماتا وقالت: سرقوا وما زالوا يسرقون مني ثماري وحجارتي، باعوها ويبيعونها على جوانب الطرقات ومحطات الباصات. سحماتا ما زالت تنزف خيرا وثمرا، لبنا وعسلا. فكيف لعربي ان ينهش فيها وهي حية؟ سيصرخ لبن التين وعسل الرمان في عروقه كالسم، والسم يقتل،ولعله يسري مع الدم ليقتل خمول السنين والاستسلام. وما انا الا بمغترب عشقت بلدي فتألمت، صرخت فطلبوني للشهادة. قالوا: من القاتل؟ قلت: هم، وهم ما زالوا يحملون السلاح فقالوا: اين المقتول؟ فقلت: سحماتا، وما زالت حية. وأين هي؟ فقلت: في قلب كل سحماني مع كل اخواتها. فقالوا: هل تشهد؟ قلت: أشهد! أشهد! فقالوا: ما مطلبك الاخير؟ فطلبت: ان تقتلوا الضحية لتستريح، او ان تمنحوها الحياة جزاء لإصرارها على الحياة. أناشد نفسي وانتم، ان تحيوا الذكرى لنستعيد الحياة لمن حُرم من الحياة نصف قرن، مات والحلم مزروع في قلبه ألماً. وما عليهم وعليكم الا ان تنبشوا القبور. لتصرخ رائحة الجريمة في وجه العالم! لا سلام لأحد الا بسلامي، وسلامي بالعودة الى بيتي، وعودة بيتي إلي.
لقد شعرت بغضب ونقمة على لا عدالة الماضي والحاضر، وشعرت ايضا بالغضب الشخصي لفرد غرّر به على نحو دائم وعميق. ان اتفاقية "اوسلو" وما تمخض عنها زاد من غضبي فعلا، وجعلني اهتم لأن تكون القصة معروفة، هكذا، عندما اتصل معي حنا ذات يوم من ايام العام 1995 وسأل "اذا ما كان قلبك سيهوى لهذا المشروع" اغتنمت الفرصة وكنت شاكرا لاتاحة الفرصة لي لأتعلم بعمق وان اكتب عن سحماتا - وهي ليست سوى جزيرة صغيرة واحدة فقط من نكبة فظيعة ومستمرة.