صفحة البداية
عن الجمعية
حق العودة
عن سحماتا
أخبار سحماتا
مواقف ونشاطات
شهادات وذكريات
مقالات و دراسات
أخبار منوعة
فن, تراث وحكايات
قوس قزح
من رياض الثقافة
والأدب
أفلام وأغاني
صور سحماتا
دنيا الأطفال
تعزيات
روابط مميزة
دفتر الزوار
اتصل بنا
English

مالك ايوب


ماسح الأحذية (البويجي) - بقلم: مالك أيوب

إلى من أحس بالكهولة تغمره رغم أن عنفوان الشباب ما زال ينبض في عروقِه
إلى من صارت الدنيا في عالمِه ظلاما و غاب الأملُ في طيَّاته أحقابا
إلى من أضحى الفقر يملأ قاموسَه واختفى من كلامه لفظ رغيف
إلى من ذبلت ورود الإيمان في ربيع قلبه وحسب أنها لن تَعود إلا بعد ألفِ خريف
إلى من ظن أن الله قد اخذ العبير من رياحينه وأقفل أبواب الرزق في وجهه
إلى من أنساه الشيطان الثقة بنفسه وزعزع ثقته بخالقه
و إلى محمد

أهدي هذه الحكاية ...

بعد يوم عمل شاق و في حوالي الساعة الرابعة بعد الظهر، رنَّ جرس هاتفي النقال و عرفت من خلال الشاشة الصغيرة أن محمدا هو مَنْ على الطرف الأخر مِنَ الخط .

لم يكن من عادة محمد أن يتصل بي في مثل هذا الوقت، و أدركت من حشرجة صوته واختناق أنفاسه أنه في حالة نفسية صعبة وبحاجة إلى من يتحدث إليه، فوافقته على طلبه واقترحت عليه شرب القهوة في وسط المدينة قرب محطة القطارات بعد أن دعوت الله ألا يكون قد أصاب أحدا من عائلته أي مكروه. اتصلت بعدها بصديقٍ آخر و ألغيت موعدي الذي كنت قد اتفقت عليه معه قبل أيام وقد أبدى تفهمه للموقف بعد أن شرحت له الحال، وفي الحال سبقتُ محمدًا إلى القهوة و ما هي إلا لحظات حتى رأيته آتيا من بعيد. كان مقطب الوجه قاتم النظرات، كأن مصائب السماء قد انهالت فوق رأسه .

كان لمحمدٍ عددٌ من الأطفال وزوجته ربة بيت لا تعمل في الخارج ولا تحصل على دخل وقد خفَّت أشغال الترجمة عنده في الفترة الأخيرة وصارت تكاليف المعيشة صعبة وعالية. و ها هو محمدٌ في حيرة من أمره لا يدري أي باب رزق يطرق، ولا أي سبيل يسلك حتى يصل بعائلته إلى بَرِّ الأمان حسب تعبيره .

بدأت أهدئ من روعه وأقوي من إيمانه ثقته بالله و بأنه ما من شخص يحصل على رزقٍ إلا كان الله قد قدره له مسبقا، ولا يستطيع أحد من الجن أو الإنس أن يحجبه عنه. وفي الحال خطر ببالى حادثةٌ كُنتُ قد عِشتُها وتأثرت بها أيما تأثر، وقد وجدت في محمد آذاناً صاغيةً لي فقلت له:


... بعد غربة طويلة أخَذتني الأقدار قبل عشر سنوات إلى عُمَان على الطرف الشرقي من الوطن العربي، فنزلت في فندق متواضع في مدينة نِزْوَى التي تبعد حوالي 120 كيلو مترا غرب العاصمة مسقط.

كان الفندق صغيرًا جميلًا، احتل طابقه الأرضي مقهى بسيط يقابله بعض الحوانيت لبيع العطورات والمواد الغذائية وسوق للتحف والأواني الفخارية و بعض الخضار و الفاكهة.

كان صباحُ ذلك اليوم جميلًا حين استيقظت في الثامنة ونزلت إلى المقهى لأجلس على طاولة خارجه لأستمتع بالنظر إلى التجار والباعة وقد بدأوا عملهم للتو. كان عدد الزبائن قليلا اللهم إلا من بعض المشترين الذين ينتهزون الساعات المبكرة لشراء الخضار والفاكهة الطازجة.

وهاهو ماسح الأحذية، رجل قد تجاوز عمره الخمسين عاما يحمل على ظهره المُنحني صندوقَ الدهان وهو ينادي " صَبَّحْنا والصباح رَبَاحْ ، يا كريم يا فتَّاح يا فالق الإصْبَاح ". أعجبتني هذه الجملة وقد انطبعت في ذاكرتي إلى الأبد، ذلك لأنني أعيش في عالم مادي صَرِف لا يعرف الدعاءُ أو الرجاءُ إليه سبيلا.

بدأ البويجي بترتيب أدواته فوق الصندوق بعد أن اتخذ له مكانا قرب أحد باعة الخضراات.

ثم مَرَّتْ ساعتان تَصَفَحْتُ خلالهما ثلاثا من الجرائد المحلية وشربتُ فنجانين من القهوة و كوبًا من الشاي وماسح الأحذية لم يسترزق إلى الآن ببيزة واحدة.

بين الفينة والأخرى كان البويجي يكرر جملته المشهورة، والتي صرت أُكررها أنا أيضا كل صباح حين أتذكر ذلك اليمني المؤمن.

وفجأة ارتفع صوت البويجي مناديا الحاج أبا عبد الله، فأتى من بعيد رجل تجاوز السبعين من عمرِهِ فَحَيَّاه البويجي أيما تحية وبدأ يمسح له حذاءه بعدما تبادل معه الأسئلة المعتادة عن صحته وعائلته وأولاده. وما هي إلا عشر دقائق حتى كان فيها حذاء الحاج أبو عبد الله يلمع كمُذنَّب هالي في عتم الليالي.

حاول الحاج أبو عبد الله أن يدفع للبويجي مالًا فلم يرض أن يأخذ بيزة واحدة. فودعه الحاج وهو يدعو له ثم غاب عن ناظري.

إزداد استغرابي من تصرف البويجي ، فقررت أن أذهب لأدهن حذائي على الرغم مِنْ أنه ليس بحاجة إلى دهان أو تلميع. حيَّيتُ البويجي فرحب بي وما هي إلا لحظات حتى كانت خِرَقُ القماش تروح وتجيء حول حذائي بسرعةٍ هائلة مثل نتَّافة الدجاج ليصبح لمعانه بريقا. سألت البويجي ما إذا كانت مهنته هذه مُربِحَة وهل يستطيع من خلالها أن يُطْعِمَ عائلته فقال لي "الله كريم و الرزق من عند الله". فقلت: لكنك لم ترضَ أن يدفع الحاج لك مقابل عملك. فمن أين يأتي لك الرزق ؟ فقال :

" إن الرزق صعب ولكني على الرغم من ذلك أحمل في كل يوم صندوقي وآتي به إلى هذا المكان كي أُرضي ربي ونفسي ولكي يرتاح ضميري ..... إن القعود من قلة الإيمان.

قبل أكثر من عشرين عاما يا ولدي، كان الحاج أبو عبد الله أول رجل من حَيِّنَا يزور الديار المقدسة ويؤدي فريضة الحج. وبعد أن عاد، تشرفت أن أدهن حذاءً لقدمٍ وَطِئَتْ أرضًا مشى فيها الرسول وطافت حول الكعبة، فحَلفتُ أن لا آخذ منه نقودا على عملي ما حَييت. أتعلم يا ولدي كم يفرح الرحمن حين يرى الحاج يقطع تلك المسافات من أجله. حين يفرح الله يرسل الفرحة إلى قلوبنا و يزيد في رزقنا. وإني لأصْدُقكَ القول إذا قلت لك، إنه ما من مرة دهنت فيها حذاء الحاج أبو عبد الله إلا وقد رزقني الله في هذا اليوم أضعاف ما أحصل عليه في الأيام الأخرى".

قلت في نفسي ...يا لله لقد قررت أثناء قِراءتي للجريدة وقبل أن يظهر الحاج أبو عبد الله، أن أذهب إلى البويجي ليمسح لي حذائي و لو شكلِيًا لأعْطِيه أضعاف ما يدفعه الآخرون، فقط حُبا لعمل الخير. لقد أنزلني الله في هذا المكان كي يَبْعَثَ الرزق لهذا البويجي وحتى قبل أن يتحرك الحاج أبو عبد الله من منزله. لا بل أن وصولي إلى هذا البلد ربما كان من أوله إلى آخره من أجل أن أوْصِل الرزق الذي قدره الله لهذا العبد في هذا المكان وفي هذا اليوم.

قطع البويجي شرود ذهني بقوله " إن شاء الله بزيارة مكة خلاص انتهينا"

شكرت ماسح الأحذية بعد أن دفعت له ما قدَّرني الله عليه وعُدتُ إلى الفندق.

نظرتُ إلى محمد وقد تهللت أساريره وارتسمت على مُحَيَّاهُ علامات الرضى ثم قال: جزاك الله خيرا، لقد أزَلْتَ عن عاتقي همّا كبيرا وأزلت عن كاهلي حملا عظيما، ولي عندك والله رجاء..

" هلا كتَبْتَ لي هذه القصة لتكون لي عزاء في كل مرة تكفهر السماء فيها في وجهي؟".

فجلست إلى طاولتي وأوراقي وأقلامي..وفَعَــلت!


سويسرا - سحماتا 29/2/2008



العودة الى صفحة "فن, تراث وحكايات"


® All Rights Reserved, ABNAA' SUHMATA Association
  Best experienced using MS Internet Explorer 6.0, Screen is optimised for viewing at 800 x 600