| | مالك ايوب 
هناك في الأفق البعيد وخلفَ خيوط السحاب الاسود الداكن وعلى قمة الجبل البنّي الشاهق.. كانت تقبع مملكة الغيوم
... الناس في هرج ومرج، حفلات الموسيقى تعجّ في الساحات وصدى الضجيج والضحكات يتردد في ثنايا الأزقة الفارغة والأحياء رقصٌ وشربٌ، ترنم وانسجام ثم ترنح وسقوط حانات الخمر في كل زاوية والرجال الثملون منبطحون على جنبات الطرقات، بائعات الهوى يجُبنَ الممرات الضيقة والنساء الراقصات يتمايلن في الباحات
... ثمار مملكة الغيوم دانية وضوء الشمس البرتقالي الاصفر فيها، يوحي بالرونق والجمال وعلى قمة التل الاخضر... تربّع القصر الذهبي
الملك على عرشه كعادته كل صباح، وعلى رأسه التاج المرصع باللآلئ والزبرجد والياقوت ... لكن الاحزان تلف الملك فها هو يجلس مغموما مهموما مطأطئ الرأس ... لقد الغى منذ ايام، الحفلات المسائية التي كان يقيمها لوزرائه، وطلب من الراقصات مغادرة القصر الى أجل غير مسمّى
وها هو الوزير يستأذن ملكه بالدخول.. فيأذن له "يا مولاي، لقد اهمني حالك ووددتُ ان افرّج عن نفسك... فالمملكة بخير والناس يدينون بالطاعة والولاء لك حبا وقسرا لقد كان والدك الملك المغفور له مهموما مثلك، ذلك ان الناس في المملكة، لم يكن لديهم ما يلهيهم او يشغلهم عن مشاكل الحكم، فابتكر لهم اللهو والشرب والرقص، حتى نسي الناس الحكم والمملكة، فتهللت اساريره ومات قرير العين بانتقال المُلك اليك. وولدك المصون سوف يخلفك من بعد طول عمر، فلِمَ الهمّ والإبتآس وأنت سيد مملكة الغيوم؟"
تنفس الملك الصعداء ورفع رأسه قائلا: "ذاك هو ما يهمني لقد صار الناس في فقر مدقع وصارت ايها الوزير قصص الرجال المخمورين المنبطحين في الشوارع تُروى هنا وهناك. واني لأخشى ان يؤلِب بعض الناس بعضهم عليّ فيزداد عددهم ... اني رأيت في منامي غيوما سوداء في ريح عاصفة تلف ابراج القصر... حتى اني لم أعد ارى احدا منها، فاستيقظت مرعوبا مهموما ألا ترى ان المعابد خالية، وإني لأخشى ان يستغل بعضهم ذاك الفراغ فيملأه بحقد على مُلكي ويُحفز الناس فيقووا عليّ لقد كان والدك الوزير الاكبر، صاحب نظر ثاقب ورأي سديد. فهلا استعنت لي بحِيلة استقطب بها الناس إليّ على فقرهم؟" قال الوزير "يا مولاي... حيث انك قد استشرتني وقد امضيت شهورا انظر في احوال المملكة، فإني ادلي اليك بخلاصة ما توصلت اليه ... لقد كان الناس يدخلون المعابد، يسبحون بحمد الخالق ويشكرونه على رزقه اياهم اما اليوم فما عاد ليدخلها منهم الا ما ندَر فماذا ايها الملك القويم، لو عاد الناس يدخلون المعابد من جديد... ولكن ليسبّحوا بحمدك ويشكروك على جزيل عطائك؟"
تهلّلت اسارير الملك وفتح عينيه كأن برقا اصاب مؤخرة رأسه "هاتِ ما عندك ايها الوزير"
قال الوزير "نأمر المنادى يطوف في المدائن، ينادي... من يدخل المعبد يأخذ دينارا ومن يخرج منه يأخذ دينارا... فيكثر الداخلون الداعون ببقاء ملكك والخارجون الشاكرون لنعمتك وكرمك"
قفز الملك عن عرشه صائحا "انها هي، ورب المملكة... انك من الصائبين"
وما إن أتى المساء حتى صارت المعابد تغصّ بالمصلين الحامدين الشاكرين، الداعين بدوام حكم الملك وصار الوزراء يدخلون على ملكهم مادحين مسرورين وعادت المغنيات الراقصات طوافات في أروقة القصر ... وتوالت الايام حتى اضحَت ساحات المعابد لا تتسع للمصلين، فدخل كبير الوزراء على ملكه لا يستطيع التقاط انفاسه "يا مولاي ان كثيرا من العابدين يدخلون ويخرجون، ثم يدخلون ويخرجون، وفي كل مرة منها يأخذون دينارا، حتى صارت خزينة المملكة تعاني من نقص شديد، ولا ادري ما اذا سوف نكون قادرين في الاشهر القادمة على ان ندفع للعابدين"
قطب الملك حاجبيه وحك جانب رأسه بطرف اظفاره ثم قال "هلا جعلتم محصيا على باب كل معبد، يختم لكل عابد عند دخوله وخروجه، عندئذ يحصل العابد على الدنانير عند صلاة الصباح وبعد صلاة المساء دون تكرار"
وما هي الا ايام معدودات حتى صار الختامون منهمكين في احصاء العابدين، الداخلين منهم والخارجين وأخذت اعداد المصلين تقلّ شيئا فشيئا
كان المصلّون يصرفون دنانير العبادة على الخمر والمسكرات، حتى صار العابدون الثملون اكثر ترنحا وسُكرا، وصارت الخمّارات والحانات التي يمتلكها الملك تجمع اموال العبادة التي دفعت لهم، وتتركهم في الأزقة على وجوههم يعمهون. ثم تصب هذه الاموال في خزينة الملك من جديد، ومن ثم يدفعها وزراؤه بدورهم الى العاملين في بساتين وعصّارات العنب ومعامل الخمور الممتدة على اطراف التلال والسهول
تلك هي دورة الخمر والدينار، تسخر كل شيء من اجل بقاء المُلك للمَلك والسلطة للسلطان فالوزراء الجامحون يعزلون، والحراس الغاضبون يقتلون، وابناء المملكة غير الشاكرين يرمون من اعالي الجبل البني الى الفضاء الفسيح حيث يغيبون في الازل البعيد المعتم، فلا يعود منهم غائب
تناقص السكان وغاب الأعوان وصار ظلام الظلم منتشرا في كل مكان، فلا استقرار ولا اطمئنان، بل رعب وخوف، انحلال واضمحلال وطغيان.
... وفي صباح يوم مشهود، تردد في ارجاء المملكة، ان فيلسوف الفقراء قد سعى من منزله القديم على اطراف المدينة، قاصدا الجبل العالي الى قصر الملك. فصار الناس في حيرة وذهول، فمنذ عقود لم يجرؤ احد من العامة على ان يفكر بالصعود الى الملك
وها هو فيلسوف الفقراء بملابسه القديمة المهلهلة ولحيته البيضاء الطويلة، يضرب بعصاه ممرا ضيقا مليئا بالحجارة، يشق طريقه عنوة بين الصخور.
الناس في ترقب شديد وصمت مميت، والحراس لذهولهم يفتحون له الطريق دون سؤال او استفسار، كأنهم في غيب عما يرون
وما ان مالت شمس الظهيرة عن وسط السماء حتى كان الحراس يشرعون ابواب القصر لفيلسوف الفقراء ليدخلها دون استئذان او سلطان، حتى اذا وصل الى باحة واسعة تجري من خلالها جداول صغيرة ماؤها صاف، فتح باب عظيم ارتجت لحركته ارجاء القصر، ومضى الشيخ العجوز يدخل صالة رحبة اصطف فيها الحراس بملابسهم السوداء والحمراء من اليمين ومن اليسار، حتى وقف امام عرش عظيم والملك من حوله الحراس يحملون سيوفا ورماحا
صاح الملك "ما الذي أتى بالفيلسوف الينا؟" رفع العجوز رأسه.. حتى اذا ما التقت نظراته عيني الملك... قال "ايها الملك العظيم لقد امضيت من السنين اكثر مما بقي لي منها، وادركت اني لا محالة ميت ولو بعد حين، وإني ورب المملكة لأفضل الموت في القمة، على ان امضي ما تبقى لي منها في الحضيض اني اعلم اني قد لا اعود من الطريق الذي جئت منه. لكنني احب ان يكون آخر طريق اختاره بمحض ارادتي هو الصعود
ان الحياة هي كلمة تقال في لحظتها، ومن صمت عن قولها فليصمت الى آخر الدهر وإني قد آثرت ان اقول كلمة حق اموت بعدها، على ان اعيش ابد الدهر مطبقا عليها
ايها الملك الجبار مثلما ظلم والدك الناس، ظلمتهم انت اخفتهم بسلطانك فأرعبتهم وقتلتهم ببغيك فأنقصتهم، ثم اغويتهم واشتريت بالمال ألسنتهم فأسكتهم هجرتهم وعلوتَ عليهم، فابتعدت عنهم ثم خذلتهم فنالكَ كرههم
ايها الملك الظالم لنفسه خالفت الخالق كي تشتري رضى المخلوق، ووضعت نفسك مكان المعبود وأنت رغم ارتفاع عرشك عبد للخالق طلبت شكر الناس قبل ان تشكر صانعك وأمرتهم بالطاعة رغم انك قد زدت للرب في معصيتك
أضعت شعبك في دروب النسيان
بعدت عنه ونسيته... فنسيك فلما احتاجك لم يجدك، وتذكرته حين اردته لطاعتك فلم تجده
عظمتَ فتجبرت وأضللت فأغويت... أذهلت العقول قبل ان تُذل القلوب وكبّلت الارادة قبل ان تقيّد الأيدي والأرجل
صارت عظام الناطقين بالحق تملأ الوديان والصامتون الضائعون تائهون في الدروب والطرقات
ليس الناس صلصالا تشكلهم كيفما تشاء ولا عبيدا تسيرهم حيثما تريد ايها الملك العنيد
اقصيتَ العقلاء عن مُلكك خوف ان يحلوا محلك وأبعدت الشجعان عن قصرك خشية ان يسلبوك ما بناه اجدادك
قطعت بالباطل ألسِنة الناطقين بالحق وألقيت في الوديان جثث المخالفين لرغباتك ونزواتك
اخفتهم لخوفك منهم وبطشت بهم لأنك لم تكسب ثقتهم
فما بلهيب النار تلين الأفئدة ولا بماء النار تسقى الحدائق الغنّاء
... ايها الرابض على عرشك فوق الغيوم وحِفظ المُلك عندك.. أم الهموم إن ابراج الوهم لا تدوم ولو كانت كذلك، ما كانت قد آلت اليك من الذي سبقك
ان الحرس والأعوان دول كما ان القصور والأيام دول
فمن يجلس بين جدران الذهب وتحت ثمين الدرّ والياقوت، لا يرى الأزقة الضيقة ولا الطرقات ومن ينم على انغام الرقص وألحان الموسيقى، لا يحس بالآلام ولا يسمع الآهات
... كيف يهنأ عصفو فقد دفء عشه وكيف تبتسم وردة لم تر النور فما للنسر الجارح تغني البلابل ولا لعتم الليل تتفتح الورود
... ايها الملك الغائب في ظلمات السحاب لقد حال شعر رأسي وصارت لحيتي أنصع من بياض الثلج لكن كل شعرة منها تنطق بتجربة... فأحْصها ان كنت من الحاسبين أما انتَ ايها الملك، فما لكَ من لحية، وشعر رأسك اسود من قطع الليل
اعدِل تكمل وحرر الارادة، تنم قرير العين هادئ البال
تواضع لهم تكسب ودّهم ومحبتهم وثِق بهم تأمنهم
إنزل اليهم يعرفوك إمش في شوارعهم يألفوك والق عليهم محبة منك يسودوك
فما بأنصال السيوف تفتح ابواب القلوب ولا لدنانير الذهب يباع رحيق المحبة
فوربّ المملكة إني لأخشى عليك يوم انتقام شديد...
غضب الملك غضبا شديدا ... كانت اطرافه ترتجف وفرائصه ترتعد كان جبينه يتقطر عرَقا مع كل حرف ينطق به الفيلسوف
وها هو يصرخ بالحراس ان يقطعوا رأسه في الحال وان يرموه من اعلى ابراج القصر
وبينما كان رأس الفيلسوف يهوى من قمة البرج العالي الى الاعماق السحيقة هبّت غيوم بيضاء لؤلؤية كوّنت تحته وسادة حريرية، نسجتها خيوط الشمس القرمزية وحملته الى عنان السماء
ثم تلتها غيوم سوداء حالكة التفت حول القصر وأحاطت بالمملكة من كل الجهات، فتصدعت الابراج وانهارت الشرفات وتحطمت الاسوار وصار الناس في نحيب وعويل وهم يهرعون من كل الأزقة والطرقات
نظرَت عينا الفيلسوف من فوق السحاب الابيض، فلم تريا الا غبارا منثورا
... فتكلم فُوه إن اعظم النطق، كلمة حق تقال، حين تصمت ألسنة الرجال
سويسرا - سحماتا 19/10/2007
| العودة الى صفحة "فن, تراث وحكايات" |