|
|
مالك ايوب
عرس في قرية المطر - عاقدة القران
خرجت بعد يوم عمل شاق من ظهيرة يوم الخميس اشتري بعض المستلزمات المنزلية، وكما هي العادة في كل مرة، لم يرن جرس هاتفي إلا حينما توقفت أمام محاسبة الدفع ... فاعتذرت من المتكلمة على الطرف الآخر من الخط والتي أحسست في صوتها نوعا من الارتباك وطلبتُ منها الاتصال بعد عشر دقائق. وقبل انتهاء المدة رن جرس الهاتف مرة أخرى ولحسن الحظ كنت خارج المتجر وقد أيقنت أن للمتصلة حاجة مُلِحَّة.
كانت المتصلة أمينة وهي فتاة في مقتبل العمر لم تتجاوز العقد الثاني، جزائرية الجنسية. كان أول ما قالته ... السلام عليكم .. فرددت السلام، ثم ما كان من المتكلمة إلا أنها بدأت تتحدث بالألمانية معتذرة بان لغتها العربية ضعيفة ... وسرعان ما دخلت في الموضوع ... فغدا الجمعة موعد زواجها وخطيبها الذي وصل الى سويسرا قبل فترة ليست بالطويلة لا يتحدث اللغة الألمانية ولا يصح عقد القران في مبنى البلدية وحسب القانون السويسري إلا بوجود مترجم لزوج المستقبل، حتى يكون على معرفة وفهم لما يتم ذكره في مراسم عقد الزواج. .... ثم توالى الرجاء الحار بالحضور يوم غد الجمعة من اجل الترجمة لزوجها في مبنى بلدية رغينزدورف أي قرية المطر .... وَرَدَت في ذهني وبلمح البرق .. أحداث صباح ذلك اليوم البارد من شهر كانون الثاني قبل سبعة عشر عاما ... يوم تزوجت... لقد كنت اركض من شارع إلى آخر بسرعة مضطربة ... فمحابس الزواج لم تكن قد جهزت وقد حدد الصائغ صباح ذلك اليوم كموعد لجلبها وبائع الورود قد بدا للتو في فتح دكانه والسماء بدأت ترسل زخات من المطر الثلجي ... كان الوقت يطير بسرعة الضوء وبدأت الساعة تقترب حثيثا من التاسعة ... موعد عقد القران، فأحسست أن لساعتي ثلاثة عقارب للثواني ... ولكم كنت أتمنى في ذلك الصباح أن يتوقف الوقت لأرتب الأمور على مهل وانظر إلى الخلف قليلا وأنا امضي إلى الأمام. .... لم ادع أمينة لمدة طويلة في حيرتها. لقد كنت أكثر شخص يمكن أن يدرك شعورها ويحس بإحساسها، فطيبت خاطرها وطمأنتها بأني سوف أكون يوم غد وقبل الموعد المحدد بربع ساعة في مبنى البلدية ، فشعرت في صوتها علامات السرور ... وودعتني بالسلام كما بدأت به.
بعد ظهيرة اليوم التالي وقبل الثالثة بعد الظهر بربع ساعة كنت أقف أمام مبنى البلدية في ريغينزدورف (قرية المطر) وهي مدينة صغيرة رغم نعتها بالقرية وتبعد عن زيورخ حوالي خمسة عشر كليومترا. وقد تجمع أمام المدخل الرئيسي له مجموعة من الفتيات والنساء كان معظمهن يرتدين الحجاب. كانت إحداهن تلبس بدلة مكونة من جاكيت وسروال باللون الأبيض وتحمل في يدها باقة من الورد الجوري. فسرعان ما أدركت أنها العروس. كانت أمينة ممتلئة الجسم بهية الطلعة لا تضع على وجهها حجابا ... ولقد لمحتني بنظرات أدركَت من خلالها هي الأخرى أني أنا المترجم المطلوب لزوج المستقبل. أما الأخير فقد كان وسيم الطلعة حسن المحيّا لا يكبرها إلا بسنة أو اثنتين وتبدو عليه ملامح البراءة والنعمة. كان معظم المتجمعات من أقارب العروسين رغم وجود بعض السويسريات من صديقات العائلتين، كما أن إحداهن كانت من شاهدات عقد القران. كانت بشرة معظمهم فاتحة وعيونهم ملونة فأدركت أن العائلتين من بربر الجزائر المسلمين، فكثير من بربر الجزائر لا يمكن تمييزهم من حيث لون البشرة والشعر والعينين عن الأوروبيين.
عند الثالثة تقدمت السيدة سانتوس عاقدة القران ... امرأة سويسرية من جذور اسبانية في الثلاثين من عمرها .. ذات وجهه ناعم لطيف وشعر اسود كثيف مرسل إلى أسفل الظهر وعينان زرقاوان كأنهما قطعتان من سماء تموز تسافران في ليل كانون. ..... أضاءت السيدة سانتوس شمعة على طاولة مستديرة وسط صالة صغيرة كان معظم أثاثها باللون الوردي وجلسنا حول الطاولة وجلس العروسان على الطرف المقابل. رفعت رأسها قليلا عن الأوراق المرتبة أمامها ثم تبسمت للجميع وقالت:
أود أن احيي جميع الحاضرين من صميم قلبي واخص بالذكر شاهدتي عقد القران والمترجم وأرحب بشكل خاص بالعروسين في عقد القران المدني لهذا اليوم الرابع من حزيران 2009.
من العادة أن تـُقدم عاقدة القران للعروسين أثناء إتمام مراسم الزواج بعض الكلمات التي ترافقهما على درب الزوجية. غير انه ليس من السهل بالنسبة لي أن أجد مثل تلك الكلمات .. خصوصا لأفراد لا اعرفهم أنا بصورة شخصية... غير أني سوف أقدم محاولة أرجو أن تنال تقديركم. لا أريد في مثل هذا اليوم أن أقرا عليكما نص القوانين ولا أن القي خطبة كلامية ... لكنني سوف أقدم مقارنة شاعرية أراها مناسبة لهذه اللحظة وهي تُصور لكما الأشياء المشتركة بشكل جميل.
هناك على كوكبنا الأرض عدد لا يحصى من الأشجار والغابات وكذلك البحيرات والجبال والأنهار والطرقات.. كلها تسير في اتجاهات مختلفة أحيانا ... متعرجة متشابكة في أحيان أخرى. لقد التقت جميعا في احد الأيام على درب الحياة ... فهل كان ذلك نصيبا ... أم قدرا مكتوبا ... أم هي الصدفة ... أو الحظ؟.... إن مساراتها تتقاطع، غير أنها ثابتة في مكانها وهي تدرك منذ اللحظة أن مصيرها يسير في نفس الاتجاه.
من الممكن أن تشعرا أن طريقكما واسع ، سهل المسار ... تنبت الورود والأزهار على جنباته ... ويفوح عطر الربيع من طياته ... ويتردد تغريد العصافير من منحنياته .. وتلامسه أشعة الشمس بخيوط ذهبية رقيقة ... هو طريق السعادة ... وأنتما تسيران عليه بانسجام جنبا إلى جنب ويدا بيد. ... أتمنى لكما اليوم أن يبقى هذا الطريق دائم الانسجام .. ولكن
... أرجو أن لا تنسيا ... أنه قد تظهر على هذا الطريق بعض العوائق. .... فهناك الصخور التي تنحدر من أعالي الجبال ... وجذوع الأشجار التي تتكسر بعد يوم ريح عاصف ... وضفاف الأنهار التي تتصدع بعد سقوط المطر الغزير ... كل ذلك قد يسد عليكما الطريق، وقد يجعله منزلقا وخطيرا. ... قد لا تستطيعان السير في بعض الأحيان جنبا إلى جنب وقد تكونان مضطرين للبحث عن طرق جانبية جديدة حتى تستطيعا تجاوز العوائق وقد تكون تلك الدروب طويلة بعيدة تحتاج إلى صبر ومشقة وشجاعة. حتى وان ابتعدت بكما الطرق ... حاولا دائما الانحراف في السير إلى طريق التلاقي ولا تنسيا ان على الطرف الآخر من الطريق مَن هو في انتظاركما. ليس ذلك دائما بالشيء السهل، غير انه بالنية الطيبة والتسامح والتفاهم يمكن تجاوز أصعب الدروب.
كم ستكونان فخورين وسعيدين عندما تتجاوزان الطريق البري المقفر الوعر الذي يحتاج في عبوره إلى حرص وحذر. كم ستفرحان حين عودتكما للمشي على الطريق المعشب ذي الورود والأزهار والفراشات ... حين تتلامس يداكما .. وتسيران جنبا الى جنب من جديد.
انه ليسعدني اليوم أنكما اخترتما هذا الطريق فامشيا معا بحذر وانتباه وبقدر عال من الامل والمحبة والثقة و الاحترام ولا تنسيا أن تملآ جعبتيكما بكثير من الفرح والدعابة
والآن سوف أتطرق للجزء القانوني في عقد الزواج
- سيدة أمينة بن بركة: هل ترضين بحاتم زوجا وشريكا لحياتك؟
- نعم
- سيد حاتم بن بركة: هل ترضى بأمينة بن بركة زوجة وشريكة لحياتك؟
- نعم
بما أن كليكما قد أجاب بنعم فإني أعلن أن زواجكما قد عٌقِد وصار ساريا
مع أجمل التهاني
انهارت دموع الصديقات والقريبات ونهض الجميع لتهنئة العروسين وتسابقت الفتيات ايهن يريد أن يقدم لأمينة الزهور قبل الأخرى.
...... وتركت الجمع في لجة الفرح لألتقي السيدة سانتوس عند طرف الصالة لأهنئها على كلمتها الجميلة التي ذكرتني كثيرا بالقصص التي اكتبها وطلبت منها أن أنقل تلك الكلمات إلى العربية .... فوافقت
ولو لم تكن هي قائلة تلك الكلمات لظننت أني أنا من قال وكتب.
زيورخ - سحماتا 06.06.2009
|
العودة الى صفحة "فن, تراث وحكايات"
|