صفحة البداية
عن الجمعية
حق العودة
عن سحماتا
أخبار سحماتا
مواقف ونشاطات
شهادات وذكريات
مقالات و دراسات
أخبار منوعة
فن, تراث وحكايات
قوس قزح
من رياض الثقافة
والأدب
أفلام وأغاني
صور سحماتا
دنيا الأطفال
تعزيات
روابط مميزة
دفتر الزوار
اتصل بنا
English

مالك ايوب


همْسُ الدوريّ - بقلم: مالك ايوب

جلستُ في مكان ظليل، على مقعد خشبي امام البحيرة. فالشمس اليوم ساطعة والحرارة قد تسلقت اكثر من ثلاثين درجة. بريق الماء يتلألأ مع انكسار موَيجات المراكب الغادية والآتية والاطفال يسبحون على حافة البحيرة المكسوّة بالطين والحجارة الصغيرة. يلعبون بالرمل المبلل ثم يعودون الى الماء حاملين معهم طوافاتهم المطاطية.
رجل هرم ارهقته السنون يجلس على مقعد خشبي آخر محاذ لمقعدي
حركاته البطيئة ولفتاته المتعبة قد أسرّت لي بما عاشه من عقود
ها هو يرقب بعينيه الضعيفتين عدْوَ الاطفال وفرحهم، صراخهم وضحكهم، وقوعهم ونهوضهم..
وعلى الطرف الآخر لمقعده الخشبي، حطّ عصفور الدوري
كان ريشه منفوشًا، ترى بياض لحمه لقلة ما بقي عليه منه
وقف الدوري على خشبة المقعد حذرا، وما ان ايقن انه في مأمن حتى ارخى عظام ساقيه واسند بطنه الى المقعد وجلس واثقا من نفسه ينظر الى الرجل العجوز ويرقب حركاته.
كان رأس الدوري يتحرك في كل مرة يلتفت فيها العجوز يَمنة او يَسرَة، ثم يعيد يمعن النظر فيه، يرقب تقاسيم وجهه وتجاعيد يديه، ينظر الى فمه وعينه، كأنما يستشعر حزنه وهمّه.
أغمض الدوري عينيه، كأنه يريد ان يقول للرجل المسن... إن حالي مثل حالك...

.. لقد خفّ ريشي وهمدت قوتي ولم أعد اقوى مثل ذي قبل على الطيران
.. لقد ذهب عني اصدقائي واقربائي وصرت وحيدا ضعيفا
.. كنت اطير الى رؤوس الاشجار، التقط من حبها الطازج والطري، وها انذا الآن انتظر مَن يرمي إليّ فتات الخبز اليابس لأنقده من بين التراب
.. كنت اطير مع اصدقائي، نجلس تحت اكواز الصنوبر، نتحدى بعضنا مَن يفتح اقساها
.. لقد ضعف جناحاي ورقّ منقاري، قصُرت مخالبي وخفّ ريشي
.. صرت أمضي وقتي انظر الى العصافير الصغيرة تتعلم الطيران، كيف تعلو وتهبط، فكان طيرانها يحرك روحي ويُحيي ذاكرتي ويجعل الدم يتدفق في جانحي
لا.. لا تحزن، فحالنا واحد..
صرتُ اجلس طول النهار، في انتظار من يكلمني او يسليني
صرت افرح حين أرى اسراب العصافير تطير نحوي، لكني سرعان ما ادرك أنهم طاروا من فوقي ولم يحُطّ احد منهم قربي
.. لم أعد ذلك العصفور الذي يبني الاعشاش ويجمع البذور
.. لم أعد ذلك الدوري الذي يقف في وجه الغراب يدافع عن ابنائه الصغار

عاد الدوري يُمعن النظر في الرجل المسن، يرقب لحيته الطويلة ونظراته الحزينة الذاهبة الى الافق البعيد.
ها هو الشيخ يتنهد ببطء، ثم يعود الى تفكيره العميق من جديد. صارت حياته في الجهة الاخرى من الحياة. فترات السهو السحيقة تجول به في عالم الضياع حتى صار حبيس العالم الآخر، لولا جوعه وعطشه او رغبة في قضاء حاجته، ما كان قد استيقظ في عالمنا المحسوس
.. كم انت مثلي ايها الرجل القديم!..
ها اني قد دخلت عالمك دون ان استأذنك، وطرقت ابواب حياتك دون دعوة منك. فلا تؤاخذني او تلمني. فنحن معشر الطير نحطّ في كل مكان دون استئذان. ومَن هو مثلي، ليس له زمان ولا عنوان
.. ما اشبهكَ بي أيها الشيخ العجوز!..
لقد كان عندك زوجة واطفال، اقرباء واصدقاء
كنتم تجتمعون، تلهون وتضحكون. كنتم تنعمون بالطعام وتحتسون الشراب، تتبادلون النكات وتسرفون في الضحكات، تودون ان يطول ليلكم الف ليلة، تتبادلون الاحاديث حتى يطرق الصباح ابواب الليل فيقفلها رغم انكم كنتم تحبون ان تبقى مشرعة لساعات وساعات.
.. كم كنتُ مثلك ايها الرجل الحالم!..
.. كنت اود ألا اكبر لأبقى في عشي الصغير، ثم احببت ألا اقوى على الطيران لأبقى قرب اشجاري.
.. كانت سمائي مليئة باصدقائي وحقولي تنادي بأسمائي
وها انذا الآن اجلس معك على مقعدك، اشاطرك همومك دون ان تدري بما آل اليه حالي
.. ما اشبه حالي بحالك ايها الرجل العتيق!..
.. ها انت تنظر الى الاطفال كيف يسبحون، يقفزون في الماء وهم يصرخون. ذكّروك بطفولتك
.. كنت تقضي الساعات الطوال لا تخرج من الماء، ترشق اصدقاءك بالرذاذ في كل اتجاه.
.. ها انت الآن لا تطيق الماء على جسدك النحيل، حتى رطوبة الصباح صارت تزعجك وغيوم السماء صارت ستائر سود في درب حياتك
.. كنت مثلك ايها الرجل السابح في الآفاق!..
.. كنت ابلل بالماء ريشي كل يوم، ثم اجلس ساعات الظهر على غصن مورق امام عشي انظف اطرافها، حتى اذا ما جفّ الماء عنها اعدت الكرّة مرة واخرى، حتى اذا ما شارفت الشمس على المغيب هجرت بحيرة الماء الى عشّي الصغير الدافئ قرب اخوتي
.. لقد خفّ ريشي وذهب بريقه، نحف جلدي وصار يخشى اشعة الشمس، فصرت لا اطيق البقاء في الضياء
لا.. لا تحزن يا صديقي..
فحالك ليس باسوأ من حالي..
لقد ادركت اني لا استطيع ان ابني عشي من جديد. لم اعد قادرا على الطيران الى الموائد العامرة ولم اعد اقوى على ان اجمع اصدقائي فوق اشجاري
لكنني تعلمت ان اغني ليومي
تعلمت ان احيّي الشجرة التي تستقبلني وان اتبسم للغصن الذي يسمح لي بالوقوف عليه
تعلمت ان افرح بقطرة مطر تبلل منقاري وان اغني من اجلها للبحيرات والانهار وان اضحك للعواصف والرعود

.. لا.. لا تحزن يا صديقي
فسوف آتيك كل يوم
اجلسُ على مقعدك، نتبادل الاحاديث ونسلّي بعضنا بعضا..
فان اتيتك غدا ولم اجدك، فلا تظنّ اني لا اعلم مكان ارتحالك
انتظرني ولا تقلق
فلن يطول الزمان قبل ان تراني قريبا منك....

ابتسم الرجل العجوز وأطبقَ عينيه بعلامة الرضى
ثم حمل عكازه ومضى


19/9/2007 - (سويسرا - سحماتا)



العودة الى صفحة "فن, تراث وحكايات"


® All Rights Reserved, ABNAA' SUHMATA Association
  Best experienced using MS Internet Explorer 6.0, Screen is optimised for viewing at 800 x 600