|
|
مالك ايوب
"أم العبد" - قصة من مخيم الرشيدية - بقلم: مالك ايوب
كانت أم العبد، او كما كنا نحن الاطفال في الحارة نسميها "العجوز الشمطاء" امرأة طاعنة في السن، محنية الظهر، غائرة العينين، مهلهلة الثياب، لم ير فستانها الضوء او الماء منذ زمن، لونت السنون شعرها برماد نار اهل الكهف، اذا رأيتها.. حسبتها من سلالة قوم سيدنا نوح عليه السلام.. او حتى آخر من نزل من سفينته.
كانت أم العبد تسكن غرفة صغيرة قرب حنيفة الحارة، التي شاءت الأقدار ان تكون في الصف الأول من بيوت المخيم قرب الشارع العام. وعلى الرغم من ان حنفية الحارة لا ترتفع عن مستوى سطح البحر إلا بضعة سنتيمترات، فقد كانت تبخل على ابناء حارتها بنقط مائها.. إلا في المناسبات الوطنية والدينية.
أما مزبلة الحارة، التي كانت عامرة بزوارها من القطط والكلاب، فكانت عن غرفة أم العبد ليست ببعيدة.
كانت أكياس النايلون والكرتون، وكروش الغنم ومصارين البقر تتراكم يوما بعد يوم في مزبلة الحارة، حيث إن فارس ومحمود جزاري الحارة المحترفين في سن السكاكين، لم تكن لديهما في ذلك الوقف بعد، الأجهزة الحديثة لإعادة التدوير recycling من أجل تحويل هذه النفايات الى أعلاف للحيوانات وسماد للتربة قبل ان يتم تصديرها الى كندا والبرازيل.. أما علب المارتاديلا والسردين المتناثرة هنا وهناك حول المزبلة، بأطرافها الحادة النصف مفتوحة، فكانت تنتظر بكل صبر، ضحاياها من اقدام أطفال المخيم الحافية، حتى لو تعرضت للصدأِ.
إذا نظرت الى اقدام أم العبد، فسوف ترى فيها شقوقا وتصدعات يمكن ان نسميها اليوم.. كانيونات، ذلك لأن أم العبد كانت تقضي النهار حافية. اما اذا قررت في يوم ما، إنتعال مشايتها المهترئة البالية او كما يمكن ان يعبر عنها الجغرافيون "المترافية الأطراف"، فذلك لأن آلام جروح اقدامها اليوم تفوق طاقة تحملها.
كانت أم العبد تقضي اوقات النهار في ظلمة غرفتها التي لم تعرف يوما إلا بابور الكاز لإضاءتها، اما اذا خرجت من الغرفة فرأيتها تكنس التراب والرمل من امام عتبة الباب بمقشتها التي اكل عليها الدهر وشرب. اما نحن الأطفال، فكنا نركض هنا وهناك ونبعثر التراب في كل مكان.. حتى على عتبة ام العبد.. ويرمي بعضنا بعضا بالحجارة الصغيرة.. ولكم من مرة عاد عاصم الى أمه باكيا لحجرٍ اصاب رأسه فتناولته أمه بالكفوف والعض فصارت مصيبته مصيبتين.
كانت أم العبد تستشيط غضبا في كل مرة لا نحترم فيها حدودها الإقليمية ونقتحم فيها حرمة اراضيها المقدسة، فكانت تطاردنا كالأسد الجريح او النسر الذي فقد أحد مخالبه.. حتى إنني في احد المرات قرأت الشهادتين وهي تركض خلفي وقد اصابني شعور بأني صرت لا محالة من اصحاب الآخرة.
في أحد الأيام قررت ان أهدم حائط الخوف بيني وبين ام العبد.. فاقتربت منها كما يمد الفأر رأسه الى قطة تربض امام جحره.. وقلت لها: "صباح الخير يا إم العبد".. ومرت لحظات لم تعطِ أم العبد خلالها أي جواب.. فقلت في نفسي "مِشِي الحال"، ثم سارعتها سائلا: "اين ابنك.. العبد.. يا إم العبد؟"
... لم أكن اعرف في حياتي ان لها ابنا اسمه العبد او زوجا اسمه ابو العبد، غير ان هذا السؤال، كان هو كل ما خطر في بالي في تلك اللحظات المرعبة.... إغرورقت عينا أم العبد الصغيرتان بالدموع وقالت بصوت كدت لا اسمعه: "أتلوه الله يئتِلون".. فقلت وقد اصابتني الدهشة: "مين إللي أتلو؟"، فردت بصوت مرتجف أحسست فيه لونا من الكراهية والغضب: "الانجليز الله يمحي دومَرتُنْ". في تلك اللحظة ازداد عندي حب المعرفة فسألتها قبل ان يتغير مزاجها: "ليش أتلوه؟"، فازداد صوتها تحشرجا وأردفت "لإنو كان من الطُفار"... لم أفهم شيئا من كلام أم العبد وكانت هذه آخر جملة أتذكرها لها.
.... ومرّت السنون.. وعلِمت أن الطفار هم المجاهدون الذين تركوا قراهم وسكنوا الجبال ليكافحوا الجيش الإنجليزي المحتل لفلسطين، وكانوا يضطرون في بعض الأحيان لسرقة المواشي.. حيث كانوا لا يجدون في تلك الأماكن النائية ما يأكلونه، وكان سكان القرى المغلوبون على أمرهم وخوفا من العملاء ومن الجيش الإنجليزي لا يقدمون للمجاهدين أي دعم يذكر.. لقد خاض الجيش الإنجليزي معركة حامية الوطيس في الجبل قبل ان يستطيع ان يقتل العبد مع رفاقه الثلاثة، ولم ترَ أم العبد جثة ابنها العبد مطلقا، ثم جاءت النكبة لتقضي على آخر مشهد من احلام الأمل في فيلم حياتها.
.... وسكتت الأيام وتوقف الزمن عند عتبة باب أم العبد...
آه يا أم العبد، يا أم الشهيد.. ليتني كنت أعلم في تلك الأيام ما أعلمه اليوم.. والله ما كنت قد تركتك تكنسين التراب بيديك الضعيفتين المرتجفتين.
آه يا أم العبد، يا أم الشهيد.. ليتك ما زلت على قيد الحياة، والله لكنت قد أهديتك أحسن الأحذية وأجمل الفساتين.
|
العودة الى صفحة "فن, تراث وحكايات"
|