|
|
أحمد أيوب أيوب
زائر ... قبل منتصف الليل - أحمد أيوب أيوب
قبل منتصف الليل بقليل. رن جرس الباب. تساءلت مستغرباً من الذي يطرق بابنا في مثل هذه الساعة المتأخرة...؟ وضعت الكتاب جانباً، قمت لأرى من يكون الطارق. أضأت النور في الداخل والخارج، وفتحت الباب ... فإذا هو سالم زميلي في العمل سابقا. يقف أمامي، وهو الذي لم أره منذ شهر أو يزيد. أبديت اندهاشي واستغرابي لحضوره في هذا الوقت المتأخر دون موعد سابق. قسمات وجهه مشدودة تدل على عدم الإرتياح، ويبدو في عينيه كلاماً يريد أن يفضي به. بشكل عام يبدو مختلفاً عمّا عرفته. شكله لا يبعث على الإرتياح. ظننت أن لديه مشكلة مهمة أجبرته على الحضور في هذا الوقت. ولهذا ربما لم يُعِر إهتماماً للوقت الحرج.
دعوته للدخول، دخل وجلسنا. جال بناظريه في أرجاء الغرف وكأنه يتفقد شيئاً غاب عنه. ثم طأطأ رأسه إلى الأرض كأنه يفكر في شيء ما. ناديته: سالم ...! فلم يجب. لكنه لم يلبث أن رفع رأسه، وأشاح بوجهه عني متجنباً النظر إلي . أثارني موقفه ، وخشيت أن يكون في الأمر شيئاً خطيراً. كأن يكون مطارداً من أحد ما، وجاء ملتجأً إلي. أو أنه أقدم على جريمة ما وحاول أن يغيب عن موقع الجريمة. أو ربما هناك مصيبة حلّت به، أو لديه خبر سيء وحضر ليخبرني به. هززته من كتفه وقلت: اسمعني ياسالم ...! أرجوك أخبرني ماذا عندك . لقد أقلقتني يا رجل. قل لي ..! هل ألمّ بك مكروه دعاك إلى المجيء إلي ...؟
أخرج من جيبه علبة سجائر، وأشعل واحدة منها، والتفت إلي مبتسماً ابتسامة خجولة، وبصوت متحشرج كأنه آت من بعيد وهزّ رأسه نافياً وقال: لالا.. لا تقلق ياأخي. قلت له: أهذا الذي أعانك الله عليه كي تطمئنني....؟ فاتسعت ابتسامته وقال: الحقيقة ياأخي أني كنت مجهداً خلال الفترة الماضية وكنت أعيش في دوامة، ولا أدري من أمري شيئاً. لهذا كنت مضطراً لزيارتك الآن بعد خروجي من تلك الدوامة، لأنني متأكد بأن مجيئي إليك سيريحني. فأتيتك دون شعور بالحرج. نظراً للعلاقة الطيبة، والثقة المتبادلة، التي كانت تربطني بك دون سائر الزملاء الذين كانوا معنا. على كل حال لن أثقل عليك وأطيل الجلوس. قلت له: طالما أنك خصّصتني بهذه الزيارة دون غيري ...! فدعني أطمئن عن وضعك أولاً، وماذا تعمل هذه الأيام ...؟ ما هي أخبار العائلة ...؟ وكيف تمضي أوقاتك...؟
التفت إلي بنظرة يائسة مستهجناً سؤآلي، وابتسم قائلاً: منذ غادرتكم لم أقم بأي عمل مطلقاً. وليس هناك أية مسؤوليات مطلوبة مني أو موكّل بها. أما العائلة .. فلن تصدّقني إن قلت لك .. أنني لم أر أحداً منهم، سواءً زوجتي أو أولادي منذ ذلك التاريخ، لظروف لا حيلة لي بها، وخارجة عن إرادتي كليّاً. كنت أود أن أسألك أنا عنهم، ولكنك سبقتني بالسؤآل كما هي عادتك.
انتهينا من شرب القهوة. وقف مودعاً، تقدم مني فاتحاً ذراعيه فتعانقنا ، لكني شعرت وكأنه لا يتنفس. هم بالخروج من الباب مكرراً أسفه عن الإزعاج الذي سببه لنا. ربّتُ على كتفه وقلت له :ماذا تقول يا راجل ..؟ أهلاً وسهلا بك. فأنت ياسالم أخ عزيز ونحبك. مد يده ليصافحني. فقلت له بل سأرافقك إلى الشارع. عند وصولنا للشارع، لم أر سيارته، فسألته: أين سيارتك..؟ وكيف أتيت ...؟ قال: تركتها منذ ما يزيد عن شهر تقريباً منذ أن تركتكم. فظروفي منذ ذلك الحين لا تحتاج لإستعمال سيارة. إكتفيت بذلك ولم أسأله عن أي شيء آخر منعأً للإحراج، فربما ظروفه المادية لا تساعده على مصاريف السيارة. عرضت عليه أن أوصله بسيارتي حيث يريد، إلا ّأنه رفض بشدة وإصرار، وصافحني ومشى. لكنه ما أن بتعد حوالي خمسة عشر متراً حتى توقف. ثم التفت إليّ وقال : هل ترى هذه البلوزة التي ألبسها....؟ قلت: نعم. قال هناك واحدة أخرى مثلها في البيت. أرجوك أبلغهم أن يفتشوا جيوبها قبل أن يعطوها لآحد. فأجبته : حاضر وتابع سيره، لكنه ما كاد أن يمشي حوالي عشرة أمتار أخرى، حتى توقف ثانية ويديه في جيبيه وقال: رجاءً لا تنسى...! هذه البلوزة. أجبته: تكرم ..اطمئن لاتوصي حريصاً. وبقيت أراقبه حتى غاب في الظلام، وعدت إلى البيت .
في صباح اليوم التالي ذهبت للعمل. التف الزملاء حولي كالعادة أثناء استراحة الشاي. قلت لهم: لكم معي سلام من شخص عزيز عليكم . إحزروا من هو ...؟ قالوا ومن هو..؟ قلت لهم: زميلنا سالم. فضحك الجميع، وسألني أحدهم: " ونشالله مبسوط وصحتو مليحة..؟ " "والبعض الآخر منهم سألوا مستغربين ومتى التقيته من غير شر، وفي أي مقهى ..؟ والله اشتقنا له، فلقد كان سالم صاحب نكتة فعلاً وله حضوره ." قلت لهم جاءني ليلة أمس. فاستغربوا.. أضفت، وطلب مني أن أبلغكم سلامه. وأخبرني شيئاً آخر أريد أن أعرف رأيكم به . فاسمعوني: عند مجيئه إلي أمس كان يلبس بلوزة سوداء. وقال لي أن عنده واحدة أخرى مثلها في البيت. طلب مني أن أخبر عياله أن لا يرموها قبل أن يفتشوا جيوبها. فما رأيكم ..؟ رد أحدهم فقال ألم يقل لك ماذا فيها ..؟ أجبته :هو لم يقل وأنا لم أسأله. فأجمعوا رأيهم أن أخبر عائلته بذلك طالما أنه قد أوصاني. لم أهمل الموضوع فاتصلت بشقيقته التي تعمل معنا في قسم أخر، وطلبت منها أن تأتيني لأمر خاص. لم تتأخروحضرت. فأخبرتها بما حصل بيني وبين أخيها سالم. ورجوتها أن تبلغ زوجته بذلك. انصرفت شاكرة بعد أن أكدت لي أنها ستخبر زوجة أخيها عصرهذا اليوم.
في اليوم التالي اتصلت بي زوجته تشكرني، وأخبرتني قائلة: أثناء تفتيشي جيوب بلوزته شعرت كأن سالم يقف ورائي يهمس في أذني سائلاً: هل تأخرت عليكم ...؟ التفت لمصدر الصوت فلم أجد أحداً ورائي. فأجهشت بالبكاء وتضيف قائلة : أخرجت يدي من جيب بلوزته فإذا بين أصابعي شيكاً صالحا للصرف بقيمة 3500 دولار أمريكي ثمناً لكمية من الأدوات الكهربائية كان قد باعها. وتبين أن المرحوم سالم كان قد استلمه قبل يوم واحد من وفاتة.
رحمك الله ....يا سالم
صيدا ـ لبنان
14/08/2010
|
العودة الى صفحة "فن, تراث وحكايات"
|