|
|
أحمد أيوب أيوب
عازف الكمان - أحمد أيوب أيوب
شبّهوا المرأة بآلة الكمان . . . لا تُطرب إلاّ من يجيد العزف عليها. . . . والمرأة والكمان متماثلان.
لأن ر شاقة جسم الكمان، تكمن بانحناءات وتعرجات جسمه، ولأن في خطوط انحناءاته وتعرّجاته يكمن السحر والجمال. وفي بديع شكله، وتعقيدات هند سته الدقيقة، تكمن عذوبة وحنان ورخامة صوته، وزفرات أنينه ونحيبه. وفي عقيق لونه، تتجلّى لحظات الحب الحالمة. وبحفيف خيوط القوس على الأوتار، يصلك همس المحبين نغماً. يحملك على جناحيه لقمة الصفاء، والطهر ، والنقاء، والأستمتاع.
والكمان ....! لا يتوافق إلاّ مع من توفرت لديه الحساسية المرهفة، والعبقرية الساحرة. ما أن يحمل العازف الكمان، ويضعه على مقدمة كتفه تحت ذقنه، ويجر القوس فوق ألأوتار، حتى يستنطقه أنغاماً من تحت أنامله، يشنّف بها الآذان ويبهر بها الأسماع.
وعازف الكمان كالعاشق الولهان. يغمض عينيه عندما يقبل عشيقته. وعازف الكمان لا يتوقف عن تقبيل كمانه ،إذ هو مغمض العينين هائم في العزف على كمانه . ليرسم أمام عينيك بنوراما (آلام الفقراء، ترف الأغنياء، لوعة المحبين، وصفاء وجمال الطبيعة). يريك أجواء ليل السهارى، ومشاهد الإنسجام بين العاشقين. يداعب الأوتار بأنامله، فيحرّك أعصاب السمع داخل أذنيك. فتشعر بنبض أنغامه تسري في جسدك. فيصبح جسدك كَماناً يعزف على آلة الكمان.
عاد حليم مساءً إلى بيته، جلس متهالكاً على كرسيه متكئاً بمرفقيه على المكتب، ينظر للكمان أمامه وهو مسترخياً في علبته السوداء المبطنة بالحريرالأحمر. لحظات، ثم رفع حليم رأسه بصمت كالمتعبد في محرابه. متأملاً ( كمانه ) الذي لم يفارقه يوماً طيلة سنواته الستون الماضية. جلس صامتًا.. صَمتُ الحكيم. صمتٌ... لكنه ينطق بكل الكلام. صمت فيه إجلال ووقار، فيه الحب الدفين، والوفاء لكمانه الوفي. صمتٌ فيه كل ذكريات الماضي الجميلة.
تركزت نظراته على الكمان، يحدثه بلغة لايسمعها إلاّ المحبين. ولغة المحبين تتعطل فيها لغة الكلام ، وتصبح لغة العيون مسموعة دونما حاجة لآذانٍ تسمع بها . تحسسه برؤوس أنامله برقة متناهية، بحنان الأم التي تخشى على طفلها ثم قال:
يطيب للإنسان عندما تتقدم به السن (في مرحلة الشيخوخة) أن يستعيد من حين لآخر ذكريات أيامه الماضية. ربما استقواءً على حاضره الضعيف بماضيه المتفجر حيوية وشباباً. ولهذا فسوف أحكي لك الليلة يا عزيزي كيمو حكاية صداقتنا الطويلة، والعلاقة التي جمعت بيننا من بدايتها، منذ دخلتَ بيتنا، وكيف توطدت تلك العلاقة خلال السنوات الماضية:
أثناء زيارة خالي لنا بعد حضوره من بلاد الإغتراب، أخبرته أمي عن دراستي بمعهد الدراسات الموسيقية. وتفوقي في العزف على آلة الكمان. سُر خالي كثيراً، وغمرته فرحة لا توصف، عانقني بحرارة، ، ورفعني بين يديه وقال : نظير تفوقك ياحليم فإن لك مني مفاجأ ة جميلة إن شاء الله تسر خاطرك. سأحضر إليك غداً وآخذك معي فكن مستعداً. في اليوم التالي حضرخالي...أخذني بسيارته إلى أشهر محلات بيع الأدوات الموسيقية في العاصمة، استقبلنا البائع وسأل خالي عن طلبه.بعد ذلك أحضرك البائع في علبتك السوداء، ووضعك على الطاولة أمامنا، وما أن فتح العلبة ورأيتك....! حتى بُهرتُ بك من أول وهلة. لم أصدق أنك ستكون ملكي في يوم من الأيام وأني سأحملك بيدي. إذ كُنتَ في علبتك السوداء المبطنة بالحريرالأحمر "كالجوهرة تتوهج لمعاناً بلون العقيق الصافي". أما مقبض العلبة الفضي فقد زاد جمالك جمالاً. اقترب البائع من خالي وقال : هذا النوع من الكمان يتصف بجودة عالية من الصوت، صناعة إيطالية مائة بالمائة. فيها كل موازين الحرفة والمهارة.
لا يقتنيه عادة إلاّ خيرةُ العازفين، ولهذا فإن ثمنه غالي ياسيدي. لم يتردد خالي. دفع المبلغ وهويقول : إن حليم يستحق أكثر من ذلك. أقفل البائع العلبة ووضعك داخل كيس من قماش وشد الرباط وسلّمني إياك قائلا ألف مبروك. شكرته وخرجت من المحل برفقة خالي وأنا أكاد أطير فرحاً. أمتار قليلة دخلنا بعدها أحد محلات الملابس، اختار خالي بدلة جميلة مع ربطة عنق "بابيون"أحمر على قميص ابيض جميل وسألني: هل تعجبك هذه البدلة ياحليم ...؟ كانت فرحتي لا توصف. لجمتني المفاجأة ، وشعرت بالخجل ولم أحر جواباً، فما كان من خالي إلاً نقد البائع الثمن وناولني البدلة داخل كيس ذو سحّاب. حمل خالي عني الكمان بعلبته، ودخلنا أحد مطاعم الدرجة الأولى الراقية.لم أكن أشعر بالجوع لشدة فرحي. لكني مع ذلك أكلت بشهية منقطعة النظير. انتهينا من تناول الطعام سألني خالي: هل أنت مبسوط ياحليم..؟ أجبته نعم. أنا في قمة السعادة ياخالي.إن شاء الله تسلم لنا. لن أنس هذا اليوم، ولن أنس فضلك طيلة أيام حياتي. أثناء عودتنا بالسيارة وقبل وصولنا إلى البيت. نفحني بمبلغ عشرين ليرة دفعة واحدة، وهو مبلغ كبير آنذاك. استمرت سعادتي إياماً وأسابيع، أعيشها حلماً جميلاً، كنت أتمنى أن لا ينتهي . لو تدري ياكيمو مدى اعتزازي وافتخاري بك أمام الناس وأنا أحملك داخل هذه الحقيبة السوداء. كنتَ رفيقي في صباي وشبابي. برفقتك حققت طموح عمري، وبنيت سعادتي.
رجع أنغامك في الليالي الساهرة،كان يلهب حماس جمهورالحاضرين ، فيَهُبُ واقفاً يصفق ، وصوته يدوّي إعجاباً. أناملي تتلاعب على أوتارك، وشدو أنغامك يعلو محلقاً يشنّف آذان الحاضرين، فينتشون برحيق حبهم....خمراً. ويصرّون على إعادة العزف ثانية لكي يعيدوا ملء كؤوسهم بخمرة حبهم وهيامهم. كانت البهجة تغمر قلبينا ، فتتجدد الحيوية والعزيمة في أوصالنا ، بعد أن كان الإنهاك قد حل بنا جراء الوقوف الطويل، والعزف المتواصل.
على فكرة ياكيمو. هل تذكرتلك الليلة التي كنت اعزف فيها والجمهور مأخوذاً بنشوة الأنغام ، وقد تجلّينا ُمبدِعَين ِ في العزف والجمهورفي قمة سكونه مصغياً.... وأنا مغمضاً عيني متجلّياً مع النغم . هل تذكر ذلك ...؟ حين انقطع فجأة أحد أوتارك. واستمريت أنا في العزف وبقيت تصدح . فوقف الجمهور مصفقاً، وصعد أحدهم إلى المسرح وعانقني ثم وضع عقداً من زهرالياسمين حول عنقي،
فرفعته من حول عنقي ووضعته على عنقك عند مفاتيح تعديل الأنغام ، استمر تصفيق الجمهور متواصلاً لبعض الوقت حتى دمعت عيناي ...؟
هل تذكر يا كيمو يوم تخرجت من المعهد بامتياز، وقدمت لي إدارة المعهد منحة لأكمل دراستي في المعهد العالي للدراسات الموسيقية ...؟ في تلك الفترة وقّعت عقد عمل مع إحدى الفرق الموسيقية المشهورة، واصبح لدي مردود مالي لا بأس به. تغيّرت على إثرها أوضاعي المالية. انتقلنا لبيت جديد، غيّرت أثاث بيتنا بشكل كامل . لم تمض سنة تقريباً حتى اشتريت سيارة.فكنت أضعك جانبي على المقعد الأمامي، كالأم التي تضع إبنها بجانبها. دارت الأيام.... ! تخرجت من المعهد العالي، اصبحت مشهوراً في الأوساط الفنية لدى عامة الناس ومعظم الفنانين، توسعت علاقاتي. تكرر سفري بداعي المشاركة في الحفلات الفنية في الخارج . وكنت رفيقي أينما ذهبت، في تلك الأثناء تعرفت على" ناديا " خطبتها لم يمض شهرين حتى تزوجنا. ولم يكن لأحد أن يشاركنا غرفة نومنا سواك. كان خروجي وإياك ليلاً للمشاركة بالحفلات يثيرحفيظة ناديا. لكون خروجي معك وليس معها، رزقنا بإبنتنا الأولى فأسميناها " أنغام " من بعدها رزقنا بالبنت الثانية وأسميناها" ألحان" نزولاًعند رغبة "ناديا." لم تمض سنتين حتى رزقنا بإبننا وأسميناه " شادي ". ومع أنك كنت معنا قبلهم إلاّ أننا حتى ذلك الحين لم نكن قد أطلقنا عليك أسما بعد.عندها أسميناك " كيمو" . كنت معي لا أتركك إلا لكي آخذ ّراحتي فترتاح أو أنام فتنام . كنت عزيزاً علي كواحد من أولادي. أخشى عليك من البرد شتاء، فأوفر لك الدفء، وفي الصيف أوفر لك جواً معتدلاً كي لا تتعرض لحرارة أو رطوبة لأني أعرف مقدار حساسيتك وتأثرك. وكنت تبادلني نفس الشعور. فعندما كنت أرقد في الفراش مريضاً، كنت لا تفارقني، ترقد بقربي صامتاً حزيناً. أنظر إليك فأشعر بك مهموما ً لهمي، متألماً لألمي. فأربّت عليك، أطمئنك كي تنام.
لست أدري إن كنت تتذكر ياكيمو حفلة "الريفولي" تلك الحفلة الكبيرة الساهرة.... عندما وقفت على المسرح وحملتك على ساعدي كمن يحمل طفله العزيز يداعبه ...؟ ما أن بدأت أعزف على أوتارك معزوفة النهر الخالد ل " محمد عبد الوهاب" حتى تراءى لي الجمهور كأنه يهيم محلّقاً فوق موجات أنغامك. وصمته.. كان لغة بدون كلمات يعبّر به عن إعجابه، لكن ما أن انتهيت من العزف ياكيمو
حتى فوجئت بالجمهور يعّبرعن إعجابه بطريقة أخرى، إذ وقف دفعة واحدة مهللا يصفق دون انقطاع .
فما كان مني وأنا أحملك فوق كفيّ اعتزازاً بك إلاّ أن أنحنيت لهم شكراً وتقديراً.
ودارت الأيام دورتها الثانية يا كيمو.....! توفيت ناديا إثرنوبة قلبية. فجعت بموتها، عمّني الحزن، وسادني الإكتئاب.ولم يعد للدنيا حلاوة. في تلك الفترة، كانت أنغام قد تزوجت قبل سنة، ومن بعدها ألحان، وكل واحدة تعيش مع زوجها وأولادها في الخارج . امّا شادي فكان يدرّس في إحدى جامعات أمريكا منذ فترة طويلة. بقيت وإياك وحيدين. فقدت طعم السعادة وطيب العيش. انعزلت عن الفن، ابتعدت عن الناس، ولم تعد للموسيقى في نفسي تلك المنزلة السابقة. وقل الطلب علينا في هذا المجال. خصوصاً بعد أن ظهرت أجيال جديدة من العازفين. إن دوام الحال من المحال لأن التغييركما تعرف هو سنة الحياة ، ولكل زمان دولة ورجال . وقد لعبنا دورنا ياكيمو والملعب الآن هو لغيرنا.
نعم كبرنا...! تقدم بنا السن، وأصبحنا على عتبة بداية النهاية ، لقد شحب لونك ومال إلى الإصفرار، بعد أن كان كالعقيق في بهائه. واختفى توهجك ولمعانك. ووهنت أوتارك وأصبح صوتك لا يسمع إلاّ بشد أوتارك من حين لآخر. وكذلك الحال بالنسبة لي ياعزيزي انظركيف شاب الشعر مني وتساقط . كالطير الذي تساقط ريشه، ولم يعد يقوى على الطيران. بانت تجاعيد وجهي، تفرقت أسناني، ضعف نظري، وأصبحت لا أتحقق الأشياء إلاّ بنظارة، وهنت قواي ولم أعد قادراًعلى الإمساك بالقوس وحملك على ساعدي بثبات واتزان مثلما كنت في أيام الشباب. كما أن الذهاب لزيارة الأصدقاء صار فيه بعض الشيء من الصعوبة . طلبوني للتدريس في المعهد، لكن رحم الله امريء عرف قدر نفسه.لم يعد لدي قدرة التحمل ومقارعة الآخرين. لذا آثرت البقاء في البيت لأتصفح جريدة الصباح مع فنجان من القهوة ، أوكتاب قرب النافذة ، والجلوس مساءً أمام التلفزيون لأطالع الأخبار أولأشاهد بعض البرامج . لقد أصبحنا في مقياس الآخرين في " خانة كبار السن ". من مخلّفات الماضي.
يجب أن تعرف ياكيمو أننا لسنا أول الناس ولا آخرهم . "نعم إن دوام الحال من المحال " لكن مالي أرى نظرات العتب في عينيك بعد كل الكلام الذي قلته لك. ألأني لم أعد أحملك لأعزف عليك كالسابق...؟ ألا ترى أن الحال قد تغير وأن المزاج قد اختلف....؟ ولم أعد أطيق العزف إلاّ عندما أحن لاجترارذكريات ايام الماضي السعيدة التي ولّت ولن تعود. وإن عادت، فلا تعود إلاّ بالذكريات التي لاتلبث أن تنقلب إلى مشاعر حزن وأسى على ذلك الماضي الجميل .
الحديث قد يطول ياكيمو...! لكن الحزن قد غمر كل خلية في جسدي و ثقل رأسي وغشاني النعاس ، سأراك غداً إن كان لنا في الحياة بقية. أسند حليم رأسه فوق ساعديه على الطاولة وراح في نوم عميق.
صيدا ـ لبنان
20/5/2010
|
العودة الى صفحة "فن, تراث وحكايات"
|