|
|
أحمد أيوب أيوب
كارمن في غرناطة - أحمد أيوب أيوب
كثيراً ما نسرح في الخيال، فنبني في الخيال قصوراً فخمة فارهة . . . ونعيش لحظات وهم من السعادة، دون أن تستند تلك اللحظات لحقيقة أو منطق. بل هي محض خيال. يتأتى نتيجة عملية تنظيم جديدة لمجموعة من الخبرات الماضية، على أن يُحسن تجميعها مُتسلسلة مُتماسكة. وتكون على شكل صور مختلفة، فتبنى منها قصة لم تكن موجودة من قبل.
إذن ..! فالخيال يرسم الصورة وهو حر طليق محلق في السماء.
بينما الواقع ملتصق بالأرض، يتقيد بالظروف، بالبيئة، بالمكان والزمان. فالواقع إذن... هو الحقيقة، وهو الصدق بذاته. وهذه القصة، هي مزيج من الحقيقة والخيال. عِشت بعضها، وتَخيلت بعضها الآخر، وسطرتها على الورق. فأصبحت أمام ناظريك حقيقة .... لا خيال .....!
* * * * *
صعدت سلم الطائرة المتوجهة من الكويت إلى لندن، أحمل حقيبة يد صغيرة، فيها تذكرة الطائرة وجواز السفر، والأوراق الثبوتية المتعلقة بدخولي إمتحان يخولني الإلتحاق بإحدى الدورات الدراسية هناك. بعد اطّلاّع المضيفة على التذكرة التي أحملها، أشارت لي بيدها على المقعد الذي سأجلس عليه. للأسف، أنه لم يحالفني الحظ بالجلوس قرب النافذة. فالرقم الذي لدي هو ليس ذاك. غصت المقاعد بالمسافرين. واشتغلت محرّكات الطائرة، وأضيئت اللوحات الضوئية تنبه إلى وجوب ربط الإحزمة، والإمتناع عن التدخين. والمقعد الذي بجانبي قرب النافذة ما زال شاغراً، وأصبح لدي أملاً بأني سأشغل ذلك المقعد. لكن ما هي إلاّ دقائق قليلة قبل إحكام أبواب الطائرة، حتى حضرت إحدى المضيفات، وخلفها فتاة جميلة، شقراء، بيضاء اللون، رشيقة القوام، يبدو عليها أنها أوروبية، وأشارت لها المضيفة الى المقعد الذي أشغله قرب النافذة. فوقفت لأخرج فاسحاً لها المجال كي تحتل مقعدها. إلاّ أنها أشارت لي بالجلوس حيث أنا. فجلست شاكرا لها. أحكمت الأبواب، ارتفع هدير المحرّكات، وابتدأ كابتن الطائرة يعلن من خلال مكبر الصوت عن بدء إقلاع الطائرة، وساعة وصولها إلى لندن، والإرتفاع الذي ستبلغه الطائرة أثناء تحليقها، و درجة الحرارة عند ذلك الإرتفاع . طالباً من المسافرين إلتزام الهدوء، والتقيد بالتعليمات، متمنيا لهم رحلة سعيدة .بعد وصول الطائر إلى مستوىً معين من الارتفاع. أطفئت اللوحات الضوئية، وسمح للركاب بالتخلص من الأحزمة والتحرك بين المقاعد. التفتت الفتاة إلي تسألني بلغة لم افهم معناها ربما كانت... ! إيطالية أو إسبانية.
لكنها بالتأكيد لم تكن تتكلم الإنكليزية أو الفرنسية. سألتها إن كانت تعرف ألإنكليزية ...؟ فأومأت برأسها نفياً يمنةً ويسرة وقالت: ( نو .. سبنيول) فعرفت أنها إسبانية. فتوقفنا عن الحديث، إلاّ أننا بين الحين والآخركنا نتبادل التحيات بإبتسامة خجولة. ساعات طويلة مرّت، قاربت الست ساعات. وأعلن الكابتن عن قرب الوصول إلى مطار لندن. بدأت الطائرة بالهبوط رويداً رويداً، إلى أن حطت على أرض مطار هيثرو .
بعد أن توقفت الطائرة تماماً، وفتحت الأبواب بدأ الركاب بالنزول. تبادلنا الإبتسامات، وافترقنا دون معرفة أية معلومات عن بعضنا بعضاً، أو الجهة التي يقصدها احدنا.
منذ طفولتي وأنا أسمع عن لندن، وقرأت الكثير عنها. عاصمة الإمبراطورية البريطانية. التي كانت لا تغيب عنها الشمس، العاصمة التي فيها أعرق الجامعات وأشهرها في العالم. بلد التقدم والرقي. وملتقى الحضارات. ومصدّرة الفقر والجوع لدول ما يعرف اليوم ب (دول العالم الثالث). هذه العاصمة التي حيكت فيها كل المؤآمرات والمخططات الخبيثة وما تزال ضد بلادي. ومعظم بلدان العالم في مختلف القارات . ومن هذه العاصمة العتيدة صدر( وعد بلفور) في الثاني من شهر تشرين الثاني 1917 . ذلك الوعد الأكثر ظلما وشؤما في التاريخ على وطننا وشعبنا الفلسطيني. هذا البلد الذي طالما كنت أُمنّي النفس بالوصول إليه ذات يوم، والإطلاع على معالمه. هذا البلد الذي كان العرب يرددون في أفراحهم في يوم من الأيام ( لندن مرابط خيلنا... ) فأصبحت لندن هذه الأيام، مربطاً لرؤوس غالبية زعماء دولنا، ودول العالم الثالث. لندن هذه...! عاصمة بريطانيا التي سلبتنا كل خيراتنا وخيرات وحقوق شعوب الدول النامية، واستعمرتنا بأبشع أنواع الإستعمار، وأعطت وطناً له تاريخ وشعب. لشعب لا وطن له، وتاريخه معروف بالخسة، والدسيسة، والنذالة ، واستنزاف الآخرين. شعب مكروه بين شعوب الأرض كلها.
استقليت إحدى سيارات التاكسي السوداء، بعد أن أمليت عليه العنوان الذي أقصده. وتحركت السيارة تجوب شوارع مدينة الضباب، التي ارتفعت على جوانبها البنايات الحديثة العالية، والمباني الضخمة القديمة، التي تشكل عراقة التاريخ البريطاني الإستعماري البغيض. الذي نما على دماء شعوب العالم الثالث وسلب خيراتهم، دمعت عيناي مراراً عندما شاهدت مبنى مجلس العموم. متذكّراً الظلم والحيف الذي لحق بنا، والمعاناة التي مر بها أجدادنا من أبناء شعبنا الفلسطيني طيلة العقود الماضية من السنين. وما زال يعاني منها أهلنا وذوونا في الشتات ومن هم تحت الإحتلال جراء القرارات التي صدرت من هذا المجلس المشؤوم.
وصلت إلى المبنى الذي سانزل به أثناء فترة أقامتي هناك. في غضون أسبوعين أنهيت كافة الإجراءآت المطلوبة للإلتحاق بإحدى الدورات التي ستبدأ في مطلع السنة القادمة، في اليوم قبل الأخير حصلت على الموافقة. وعدت الى المبنى الذي أقيم فيه. راودتني تلك الليلة فكرة القيام بزيارة إبني شقيقتيّ اللذين يدرسان في غرناطة بإسبانيا. اتصلت بأحدهما حينذاك وأخبرته بالفكرة فرحب بها بل أصّر علي بتنفيذها. خصوصاً أننا لم نر بعضنا منذ سبع سنوات سلفت.
في الصباح ذهبت لأحد مكاتب السفر وحجزت تذكرة بالطائرة المتوجهة لمدريد في الساعة الرابعة بعد ظهر ذات اليوم، إتصلت ثانية بابن شقيقتي أخبره. فزودني ببعض المعلومات التي يتوجب علي القيام بها عند وصولي لمطار مدريد، وفي محطة القطار الذي سيقلني إلى غرناطة .
قبل توجهي لمطار هيثرو للمغادرة اشتريت قاموس إنكليزي - إسباني للإستعانة به ببعض الكلمات إن لزم الأمر. أوصلني التاكسي إلى مطار ( هيثرو). أنهيت الإجراءآت المطلوبة، وبعد وقت قصير من دخولي الطائرة أقلعت بنا في الوقت المحدد متوجهة الى إسبانيا. بعد ساعتين ونصف تقريباً حطت الطائرة في مطار مدريد. هو مطار عادي. لم تأخذ الإجراءآت فيه وقتاً طويلاً. أنهيت كل شيء وخرجت من المطار. كانت الساعة تقارب الثامنة والنصف مساءً. وكانت المشكلة مع سائق التاكسي.فالتعامل معه فيه صعوبة بالغة، لكونه لا يعرف سوى اللغة الإسبانية. بينما معرفتي باللغة الإسبانية لا تزيد إلا قليلاً عن معرفة جارنا العجوز( أبو عوّاد ) باللغة اليابانية التي لم يسمع عنها شيئا في حياته. ولأن نسبة من الشعب الإسباني متعصبون للغتهم فهم لا يتكلمون غيرها حتى وإن كان لديهم إلمام بذلك. لكن لحسن الحظ أن ابن شقيقتي كان قد زودني ببعض المفردات الإسبانية التي قد احتاج اليها في تعاملي خلال سفري هذا. فقلت للسائق (ستاثيو أتوشا)، أسم محطة القطار، ربما لم يكن اللفظ صحيحاً إلاّ أنه فهم ذلك. وأوصلني لمحطة القطار. دخلت المحطة' وتوجهت إلى مكتب حجوزات التذاكر. وهنا أحب أنوه : فأقول أن من يتكلم ألإنكليزية، يستطيع أن يفهم بعض المفردات من اللغات الأخرى لقربها من اللغة الإنكليزية. اشتريت تذكرة القطار المتوجه إلى غرناطة ، وقبل أن أغادر مكتب الحجز، سألت الموظفة عن موعد مغادرة القطار، وليتني لم أسالها. إذ أجابتني بدون توقف ما يوازي مقدار نصف صفحة مكتوبة. ولما رأتني ما زلت واقفاً غير مستوعبٍ لما أفاضت به علي. أعادت ما قالته بدون توقف كالجهاز الآلي. لكن بعدم ارتياح من طرفها. وبصعوبة بالغة من خلال الإشارات والإيماءآت ، استطعت أن أعرف وقت قيام القطار من المحطة، ورقم العربة التي تم الحجز لي فيها، وكان للقاموس الإنكليزي - إسباني دور كبير في حل تلك المعضلة .
صعدت لإحدى العربات التي أرشدني إليها الموظف المختص لإرشاد المسافرين، صعدت العربة، فرأيت حوالي سبعة أو ثمانية أشخاصٍ من الرجال والنساء الإسبان. يجلسون داخل العربة على مقعدين من الخشب متقابلين يتحدثون بشكل سريع مع بعضهم بعضاً ، وبنفس العربة كان هناك سريران خشبيان ثابتين احدهما فوق الآخر .
حييت الجالسين بانحناءة بسيطة برأسي، ردوا التحية. ولكوني كنت قد حجزت أحد السريرين. فقد اعتليت الأعلى منهما. رتبت أموري بحيث أحصل على قسط من الراحة، بالقدر الذي يسمح لي المكان. إلاّ أنني شعرت أن حديث هؤلاء الناس بهذا الصوت المرتفع، كصوت خلية النحل سيكون مصدر إزعاج. صبرت على ذلك قليلاً لعلهم يلاحظون فيخفضون صوتهم. لكن يبدو أنهم غير آبهين، فأنا في واد وهم في وادٍ آخر. من خلال مظهرهم وضعت احتمالاً أن يكونوا من الفلاحين. في هذه الحالة لن يكون لديهم حسن الملاحظة كي يراعوا مشاعر أو ظروف الآخرين. فكان لا بد من اختراق حديثهم . لذلك نزلت من السرير، ومعي علبة من الحلوى (دربس). تقدمت منهم مرة أخرى محيياً، وبيدي علبة الحلوى، وأشرت إليهم ليتناول كل منهم نصيبه. استغربوا ذلك في البداية، لكن مد كل واحد يده وتناول حبة وهو يبتسم. مرددين كلمة (كراثيَس)عرفت فيما بعد أنها تعني شكراً .
في هذه اللحظة دخل شاب في أواخر العشرينات. يبدو عليه أنه متعلّمٌ أو من أيناء المدينة فهو يختلف عنهم كلية. قدمت له (الدربس)، أخذ منها حبة ورد بالإنكليزية قائلا: ( (Thank you (شكرا لك). فكانت فرصة لي، خصوصا أنه من سيشغل السرير الأسفل. دعوته للصعود فصعد وجلسنا على حافة السرير، حاولت التحدث إليه بالإنكليزية فتبين لي أنه لا يعرف سوى بضع كلمات منها. لكن استمر( حوار الطرشان) بيني وبينه، حتى أثمر. إذ استطعنا في النهاية من خلال القاموس الذي معي أن نتوصل لوسيلة تفاهم أراحتني إلى حد كبير. إذ توقفوا عن الإزعاج ألذي كانوا يحدثونه لانشغالهم بالتنصت على حوارنا. مضى الوقت سريعاً فقد انبلج الفجر. نزلت عن السرير وتوجهت للممرالذي يوصل بين الغرف، ووقفت متكئاً بساعدي على حافة الشباك أتأمل جمال طبيعة هذه الأرض ذات المناظر الساحرة الخلابة التي نمربها. أكثرمن ساعة والقطار ينهب الأرض بين أشجار اللوز المزهرة. جمال لا يعادله جمال. كأنها روضة من رياض الجنة، مناظر تسحر العيون، وتهذب النفوس، وشذا أزهار اللوز يبعث في النفس إحساساً لا تستطيع استيعابه. فيالجمال ما خلق الله...! وإلهاماً لا تستطيع إدراك منتهاه لعظمة الله فيما خلق. فترفع يديك للسماء مبتهلاً، مسبحاً ، شاكرا لله على فضله ونعمه .
إنها غرناطة..... هكذا قالوا لي. غرناطة هذه التي كانت وما زالت تعتبر زهرة بلاد الأندلس. كانت ذات يوم عاصمة مقاطعة غرناطة، يسودها مناخٍ غاية في الروعة واللطف، ذات سحر عربي أخّاذ. تقع على بعد 428 كيلو متر جنوب غرب مدريد. وترتفع عن سطح البحر 669 مترأ وهذا ما يعطي غرناطة تميزاً على غيرها .
في الثامنة صباحاً توقف القطار في محطة غرناطة. هممت بالنزول فتقدم الشاب الإسباني، وحمل الحقيبة عني ونزلنا من القطار. وتوجهنا لأقرب (كابين ) للتلفون وأجرينا اتصالاً مع ابن شقيقتي. الذي حضر بعد دقائق .شكرنا الشاب على لطفه وحسن تصرفه طيلة الرحلة. ثم ودعناه متوجهين الى البيت الذي يسكنه ابن شقيقتي .
لم يكن بالإمكان أن أنام في القطار بسبب الضجيج من ناحية، ولإنشغالنا بالحديث طيلة الليل. وصلنا البيت بمنطقة (كامينو روندا)،في شارع(سينيكا ) نلت قسطاً من الراحة. ثم أخذت حماماً ساخناً. وذهبت للفراش، بقيت نائماً إلى ما قبل العصر .
مساءً حضر بعض زملاء ابن شقيقتي من الطلبة الفلسطينيين والإسبان الذين يدرسون معه في الجامعة ممن علموا بمجيئ. أمضينا سهرة مميزة، ذات طابع ثقافي، إجتماعي، سادتها روح الدعابة والفكاهة، غلب عليها االطابع الجامعي، تخللتها الترجمة المتبادلة (عربي- إسباني ) ومن إحدى الغرف الداخلية، كان يتهادى لمسامعنا صوت فيروز يشنف الآذان بأغنيتها (ياليالي الوصل في الأندلس ) التي أضفت على السهرة جواً حالماً جميلاً لن ينسى . اليوم التالي بقينا في البيت للراحة. وتم وضع برنامج: زيارة معالم المدينة الأثرية والسياحية والمدن الأخرى، زيارات لبعض الأشخاص، جولات قصيرة للتعرف على المدينة ، وفي الختام جولة للتسوق.
في اليوم الثالث، أنطلقنا من البيت بالسيارة إلى وسط المدينة أو ( السنتر ) حيث توجهنا لقصر الحمراء سالكين شارعاً يسمى ( أُلفيرا ) يربط وسط المدينة بمنطقة الحمراء .بعد حوالي عشرة دقائق وصلنا منطقة الحمراء والتي هي عبارة عن هضبة ترتفع مقدار 736 متراً تقريباً عن سطح البحر، مكسوة بأشجار الحمضيات المتنوعة، وأشجار السرو، وأنواع مختلفة من الأشجار الضخمة الموغلة في القدم. فتبدو كأنها غابة كبيرة، يخترقها شارع معبد عريض يؤدي لقصر الحمراء الذي يربض هناك في أعلى الهضبة .
رغم تبدل الظروف والسنين، ما زال قصر الحمراء شامخاً، مطلاً من علٍ على مدينة غرناطة. كالأسد يجثومتوثباً حارساً عليها. هذا القصر بأبراجه وأسواره الذي بناه العرب في القرن الثالث الهجري. هذا الصرح العظيم الذي تجلت فيه صورة العظمة بأبهى صورها، وخُطّت على تضاريسه خريطة المجد . ما أن تقف أمامه متأملاً ....! حتى تخنقك العبرات وأنت ترى تلك الإرادة السامية التي شيدت هذا الصرح الخالد، وأسبغت عليه هذه القوة، وذاك الجمال الهندسي البديع، الذي يظهر روعة الحضارة الإسلامية وعظمتها.
تلك الحضارة التي كل ما فيها ينطق بالعظمة والجلال والجمال. دفعت الشاعر المكسيكي العظيم ( دي أيكاسا ). في القرن الماضي، الذي كان يتجول مع زوجته في أرجاء القصر، عندما شاهد متسولاً ضريراً يمد يده للزائرين. أن يقول لزوجته : ( أجزلي له العطاء يا لود ) إذ لاتوجد في الحياة حسرة أوجع من أن يكون الإنسان أعمى في غرناطة.
عدنا من القصر عصراً بعد أن مررنا بأقسامه كلها: القصبة، القصر الناصري، جنة العريف، الحدائق والقصور، والساحات الواقعة بين القصر الناصري وجنة العريف، ولم تفتنا زيارة بركة الأسود. هذه الأسود التي كانت تخرج المياه من أفواهها، فأذهلت الإسبان عندما رأوها. فأرادوا معرفة سرتقنية خروج الماء من أفواه الأسود. فلما قاموا بالحفر، توقفت المياه، وعجزوا عن التوصل لحل ذلك اللغز الذي ما زال دون حل حتى الآن .
اليوم لم نشأ أن نخرج من البيت كي نستريح من رحلة قصر الحمراء يوم أمس. التي استغرقت وقتاً طويلاً في التجوال. وللخروج من حالة الحزن والأسى التي ألمت بنا خلال تلك الرحلة، التي خلناها قد أعادتنا عبرنفق الزمن للسنين الخوالي من أمجاد المسلمين في الأندلس. وما آلت إليه حالة الفرقة والفساد والإنقسام الذي حل بين حكام الأندلس آنذاك، وأدى إلى نهاية حكمهم ووجودهم. وتطابق ذلك الحال مع حالنا هذه الأيام في الوطن العربي من الفرقة، والفساد والإنقسام بين الحكام العرب والمسلمين، وما يخشى أن تؤول إليه أحوالنا إذا ما استمر الوضع على حاله .
اليوم مساءً توجهنا بسيارة تاكسي لأحد ضواحي غرناطة في حي ( تونا ) بدعوة لإحدى قاعات الرقص (ديسكو فلامينكو). وصلنا إلى هناك، ودخلنا قاعة الرقص، فكانت المفاجأة ألتي أذهلتني واعادتني في الذاكرة ستون عاماً للوراء، إلى قريتي في فلسطين.
يا إلهي...! إنها حظيرة من حظائر الماشية التي كانت في قريتنا. إذ أن القاعة هي عبارة عن حظيرة للمواشي(صورة طبق الأصل) لا تختلف بشيء عن تلك. وموقعها في ضواحي البلدة، تماماً كما كان الوضع في قريتنا. هندستها الداخلية، الأقبية العقودة المتعددة، والحجارة التي رصّت بها. لا اختلاف أبداً سوى ما أدخلوه عليها من بعض التعديلات فالمدخل الواسع الذي بدون باب. أصبح له باباً أُتوماتيكياً من الزجاج. ومكتباً في الداخل للإستقبال وشراء التذاكر. باراً كبيراً للمشروبات الروحية، مكتباً صغيراً، عدداً من دورات المياه. وثبتوا على الجدران التي طلوها بألوان مختلفة ، بعض مكبرات الصوت، وبعض مصابيح الإضاءة المتعددة الألوان التي تعمل بصورة أتوماتيكية بالتناوب. لم يثر اهتمامي حركات الراقصين والراقصات،
ولا ما يحدث بينهم. ولا اصوات الغناء والموسيقى الصاخبة. بل انصب جُل اهتمامي على هذا المبنى الذي خِلته قطعةً اقتلعت من بلادي، ووضعت ههنا على هذه الأرض. وجالت في خاطري صوراً متعددة كنت قد رأيتها في صغري في تلك (الصيرة ).* منها صورة الراعي وهو يحمل عصاته الطويلة يمشي متبختراً بين الغنم، كالجنرال بين الجنود. وتذكرت كيف كان البعض من اهالي البلدة يتوافدون ليجمعوا حليب مواشيهم في الأواني النحاسية التي يحملونها. أحياناً لم أكن أشعر بما كان يدور حولي. فالراقصون في وادٍ وأنا في وادٍ آخر. أخذتني مرحلة الطفولة بعيداً ..بعيداً عن هذه الأجواء.
بعد انتهاء السهرة. أقلنا أحد الشباب بسيارته للمدينة، ونحن نتابع سيرنا .في أحد احياء منطقة( ساكرمنتي ) شاهدنا على بعد أمتارٍ قليلة منا مجموعة من الشباب يرتدون أثوابا سوداء كالتي يرتديها القضاة عليها ياقات حمراء. يقفون متحلّقين تحت شرفة إحدى البنايات، تفيض وجوههم بالحيوية والبهجة والحماسة. وبأيديهم آلآت موسيقية مثل (الجيتار، الكمان، والأوكورديون ) يعزفون عليها. وتصدح حناجرهم بأجمل أغاني الحب الإسبانية الجملية. موجّهين أصواتهم إلى الأعلى. الوقت بعد منتصف الليل. وهم في ذروة عزفهم وغنائهم ، خرجت من إحدى الشرفات صبيّة آية في الجمال، بفستان أبيض طويل مزكش بزهور حمراء. تحمل بيدها سلة من القش مزخرفة ملأى بمختلف أنواع الزهور يحيط بها أفراد أسرتها. ابتسمت لهم وأخذت تنثر عليهم الزهور وحبات الحلوى. وعلا صراخ هؤلاء المغنين والعازفين. إنه عيد الحب كما قالوا لي ، وفي عيد الحب يخرج العشّاق في هذه الليلة، مع العازفين والمغنين من زملائهم إلى حيث يقطّن عاشقاتهن واحدة بعد الأخرى، يحيونهن، ينادونهن بأسمائهن ، فمن تطل عليهم من شرفتها مبتسمة تنثر عليهم الزهور أو الحلوى أو الأرز. فإن ذلك يعني موافقتها على ذلك العاشق أو الحبيب. ومن لم تطل عليهم من شرفتها فهي لا ترغب بذلك العاشق، وهناك من تطل غير مكترثةً وتصب عليهم الماء . فهي أيضاً لا ترغب في ذلك العاشق. إنه عيد الحب عندهم. لم أكن قد سمعت عنه من قبل. إذ لم يكن عيد الحب أنذاك معروفاً في بلادنا. لم نشأ أن نتأخر أكثر من ذلك وافترقنا عن العازفين.غير أن روح الطرب والغناء انتقلت لمن كانوا معنا فصاروا يغنون ويتقافزون . وفجأة توجه إلي أحد الشباب الإسبان ممن كانوا معنا طالبا مني أن أغني لهم بالعربية. والحقيقة أنني فوجئت بمثل هذا الطلب الذي لم يخطر على بالي يوماً، ولم يسبق لي أن غنيت. ولكن ماذا أفعل ...؟ قلت لنفسي لن أظهر بمظهر العاجز المحرج بين هؤلاء الشباب. فقلت لهم رجاءً ترجموا له التالي(سأغني إكراماً لك). فضحكوا جميعا ًمبتهجين معتقدين حتى العرب منهم بأني سأحيي أمجاد (ألفس بروسلي ) أو أمجاد عبد الوهاب. ولكن يا لخيبة أملهم جميعاً عندما سيسمعون، من لا غناء عنده ولا طرب. فسيندمون على هذه النهاية المفجعة لسهرتهم.
في لمح البصر، جالت في خاطري كلمة كنت أسمع المرحوم أخي يرددها للفكاهة عندما يسأله أحدنا عن رأيه في شيءٍ. كأن يقول له مثلاً : مارأيك في هذا النوع من البرتقال . .؟ فكان يجيب مستخفّاً ضاحكاً وهو يشكل بإصبعيه الإبهام والسبابة شكل دائرة، وضاغطا شفتيه على بعضهما متظاهراً الجدّية قائلاً : (عالكرفتسو) .
فيضحك الجميع. بينما يكون البرتقال ليس من النوع الجيد .
طلبت من مجموعة الشباب، عندما أبدأ بالغناء أن يرددوا من بعدي وبصوت عالي أللاّزمة ( أ...أ ) ولو كان المطرب شعبان عبد الرحيم آنذاك موجوداً ، لقدّم دعوى ضدي بسرقة أعماله، أو نعتني بالنجم الجديد الفاشل. وطلبت منهم أن يبدأوا فور توقفي عن الغناء ، فوافقوا.
توكلت على الله ورفعت يداي كالمايسترو، معطياً إشارة البدء ورفعت صوتي مردداً الكوبليه الأول .
عالكرفستو....ورددوا بعدي أ....أ
مضَوِّع ديستو أ ... أ
عالكرفستو أ....أ
عَم بغني أ ....أ
هالإسنبِا نيُول أ ...أ
( وأرفع صوتي) تا ينبسطوا أ ....أ
ورأيت الجميع يرددون ورائي بحماسة وصوت عالي أ....أ ، منسجمين وكان ألفس بروسلي أمامهم، العرب منهم قبل الإسبان ذكوراً وإناثا . العرب يرقصون ملوحين يأيديهم في العالي وبحماس. بينما الإسبان يرقصون محرّكين أيديهم بعصبية رقص الفلامنكو. يصفقون حيناً ويضربون على أرجلهم مرة أخرى. (يعني الجماعة قابضينها جد). عند ذلك لم أتمالك نفسي من الضحك فصاروا يلحّون علي أن أكمل الغناء. غيرأني لم أستطع أن أرد عليهم من الضحك فتوقّفوا. وتبين لي أن كلمة عالكرفستو ويلفظها الإسبان ( أكّرفستو) مع أنهم لم يميزوا هذه عن تلك. ومعناها باللغة الإسبانية ( وجه السلة) عندما تكون ممتلئة. لذا أخذتهم الحماسة ظناً منهم بأني سأغني فرانكو أراب. أكملنا الطريق كل إلى بيته والكل يتمنّي عليّ أن نعيد السهرة قريباً وأن أغني لهم ما يعتقدون أنه فاتهم في تلك الليلة. لقد أصبحت مطرب آخر زمن. وأين ........؟ في بلاد الأندلس.
لم نخرج في اليوم التالي. ورأيت من الضرورة أن أنهي كل أموري خلال اليومين التاليين ، ليكون اليوم الثالث راحة لي قبل السفر عائداً إلى الكويت. قمت بجولات قصيرة للتسوق لمدة يومين، أنهيت فيها كل ما سبق أن سجلته في مفكرتي .
في اليوم الثالث ذهبت إلى سنتر المدينة في جولة لمدة ساعة، تناولت القهوة بعدها وعدت بالتاكسي إلى البيت . في طريق العودة سلك السائق طريقاً أخر غير الذي أعرفه، ومر بي في منطقة جميلة وادعة تسمى (حي البياسين) في شارع تمتد على جانبيه بيوت بسيطة تتكون من طابقين أو ثلاثة على الأكثر .وعلى جدران كل بيت علقت أصص الزهور. وأمام كل بيت حديقة متواضعة، يحيط بها سياج خشبي يختلف لونه عمّن سبقه . طلبت من السائق التوقف واعطيته الأجرة. نزلت من السيارة وآثرت أن أمشي في هذه المنطقة الجميلة. وقفت متأملاً فانتابني إحساس غريب . إذ تراءى لي كأني أعرف كل شيءٍ في هذه المنطقة أو كأني زرتها من قبل.
تابعت سيري.ثم وقفت مستغربا، ألتفت ذات اليمين وذات الشمال. يعتريني إحساس أن أمامي على بعد عشرين متراً تقريباً إلى اليمين منعطفاً ، وتراءى لي أن هناك في ذلك الشارع توجد كنيسة. وبالفعل عندما دخلت ذلك الشارع وعلى بعد خمسين متراً شاهدت كنيسة بين الأشجار. ولم أمض قليلاً حتى أحسست وكأن المفرق الذي على الشمال يوجد فيه سوبر ماركت كبير. وعندما وصلته تحققت من ذلك وكان صحيحاً. وقفت مشدوها أحاول أن أستوعب الموقف. ما هذا الذي يحصل معي...؟كيف أعرف ذلك كله وأنا لم آت إلى هنا من قبل....؟ هل ما يحصل معي حقيقة أم خيال ...؟ تقدمت قليلاً فرأيت رجلاً داخل حديقة بيته واقفاً وأمامه يجثو كلب كبير، كأنه يتلقى تعليمات منه. كالجندي أمام الضابط يتلقّى تعليماته، ويصرخ عليه الرجل من حين لآخر. بقيت متابعاً سيري وأنا ألتفت لذلك الرجل وكلبه من حين لآخر دون أن أتوقف ودون قصد مني. وما أن ابتعدت عنهما حوالي خمسين متراً ملتفتاً إليهم. مرة أخرى حتى سمعت الرجل يصرخ بالكلب ويفتح له بوابة السياج ويخرج الكلب يعدو مسرعاً نحوي. انتابني خوف شديد. ولم يكن مني سوى أن ركضت مسرعاً بقدر ما استطيع، وبشكل لم يسبق له مثيل. وصرت ألوم نفسي لنزولي في هذا المكان. و أتصور كيف سيهجم علي ذلك الكلب اللعين، وكيف سأدافع عن نفسي، وماذا سيقول الناس عني إذا ما رأوا وجهي مثخناً بالجراح عند عودتي. والروايات التي ستفبرك علي. وكيف سأدفع عن نفسي كل ما سيقال....؟
نظرت خلفي فوجدت أن الكلب لم يعد بعيداً عني. فهالني منظره وسيطر علي الرعب، وصرت اتصبب عرقاً بشكل غريب، ولم يكن مني إلاّ أن قفزت من فوق سياج أحد البيوت وتخطيت الحديقة إلى باب البيت طارقاً الباب بقبضة يدي طرقات متتالية سريعة. ما أن فتح الباب حتى دخلت مسرعاً. فانتاب الفتاة التي فتحت لي الباب ذعراً شديداً لدخولي المفاجيء. لكنها أطلت برأسها لتعرف من يلحق بي. وسرعان ما أدركت المشكلة وعادت تبتسم. التفتت إلى داخل البيت ونادت بصوت عالٍ على من فيه. وعلى الفور حضرت سيدة عجوز تقارب الثمانين عاماً إن لم يكن أكثر . وما أن شاهدتني حتى شهقت، لقد حل النحس كله دفعة واحدة. إذ صارت تتكلم بصوت مرتفع وتنظر إلى باستغراب واندهاش شديدين. ثم تؤشر عليّ بيدها بحركة متكررة وكأنها تقول إنه هو. ياللهول ما هذه المصيبة التي أوقعت نفسي بها ولم تكن بالحسبان ؟!. ونظرت للفتاة فرأيتها هي الأخرى تحدق بي وبإمعان شديد. أحسست عند ذلك أن الدنيا تلف بي، وخلت نفسي متهماً لا براءة له وسأدخل السجن لا محالة. ثم حلّت المصيبة الأكبر وهالني ما رأيت. عندما دخل علينا من إحدى الغرف رجل طويل. له شعر خفيف وشاربين. تعابير وجهه هادئة، لم يتكلم إلاّ بضع كلمات مع الفتاة وأخذ يصغي لها وهي تتكلم إليه وتنظر إلى محدّقة بين الحين والآخر، ثم تنظر نحو الباب وهي تكلّمه وتبتسم. ولم تكد أن تنهي حديثها. حتى بدأت العجوز كلامها وهي ترمقني بنظرات حادة وتؤشر علي بأصبعها عدة مرات وكأنها مصرّة على إتهامي أني مجرم أو قاتل. عند ذلك خطرفي بالي ما كنا نسمعه ونحن صغاراً ( إجاك الموت يا تارك الصلاة) .
موقف لا أحسد عليه. لقد جف حلقي، وأصبحت شارد الذهن. ولا أستطيع التركيز في تفكيري.ولم أستطع أن أسيطر على رجفة يدي ورجلي.بينما كان الرجل يراقبني طيلة الوقت. ثم التفت نحوالفتاة وكلمها فتركتنا، لكنها سرعان ما عادت وهي تحمل طبقاً عليه كوباً من الماء وقدمته لي.
يا إلهي ..! لقد أحضرته فعلاً في الوقت المناسب. أخذته منها بيد مرتجفة وبلّلت حلقي وشفتاي وكأني لم أشرب الماء منذ عشرة أيام. وفجأة سمعت ما لم تصدقه أذناي. التفت الرجل نحوي وخاطبني باللغة العربية قائلاً : الأخ عربي..؟ لم أصدق ما سَمِعت. وظننت أني أهذي أو يتهيأ لي. فقلت مستجمعاً شجاعتي: ... نعم ياسيدي..!
قال : ماذا تعمل في غرناطة ...؟
قلت : إن سمحت لي ياسيدي أن أتكلم ، فسأخبرك بكل شيء .
قال : قل ما تشاء .
توقفت لحظة ألتقطت فيها أنفاسي، ثم أخذت رشفة من الماء، وقلت: أولا اشكرك يا سيدي على إعطائي الفرصة حتى أرد على سؤآلك . أنا يا سيدي أعمل في الكويت منذ فترة طويلة. سافرت إلى لندن لتقديم امتحان من أجل الإلتحاق بإحدى الدورات الدراسية هناك. وبعد أن أنهيت المهمة المطلوبة. رغبت بزيارة أبني شقيقتي اللذين يدرسان بإحدى جامعات غرناطة. فاتصلّت بهما وحضرت لزيارتهما وكان مقرراً أن أعود للكويت يوم غدٍ. غير أن هذا الكلب اللعين الذي لحق بي هو الذي أوقعني بما أنا فيه الآن .
قال: وماذا فعل الكلب ..؟
قلت: بينما كنت ماراً في الشارع بأمان ،فوجئت بصاحب الكلب قد فتح له صاحبه بوابة السياج وصرخ عليه فلحق بي.
فتبسم الرجل من زاوية فمه ليمنع نفسه من الضحك .
قال: وماذا تعمل في الكويت ...؟
قلت : بوزارة الصحة .
قال: اتعرف السيد (...) ...؟
قلت : نعم إنه جار لي بنفس البناية .
قال : أتسمع با ديب إسباني إسمه رفائيل..؟
قلت : نعم. وربما أكون قد التقيت به إن كان ذلك هو الذي تعنيه .
ثم سألني قائلاً : منذ متى التقيته وأين ..؟
قلت : في شهر أيار كما أذكر منذ أربع سنوات في بيت جاري السيد فلان .
قال : هل إذا رأيته الآن تستطيع أن تعرفه ...؟
قلت : ربما يا سيدي .
وقف الرجل وتركنا ثم عاد ومعه أجندة وقال : هل أنت السيد فلان ...؟
قلت : نعم. عندها أخرج صورة من الأجندة وقال: هل تعرف هؤلاء الأشخاص في الصورة ...؟ وقدمها لي
نظرت إليها فإذا أنا واحد من الموجودين فيها. نظرت إليه مبتسماً وقلت: أنت هو السيد روفائيل الآن تذكرتك.عفواً لقد تغيرت يا سيدي. ً فقد خف شعرك، وأصبح لك شاربين . وأنا أهنيك على قوة الذاكرة .
قال : أريد أن أعرفك على والدتي( السنيورة لويزا ) وهذه أختي ( السنيور يتا كارمن ). إن أمي منذ شهر تقريبا وهي تحدثنا عن أن غريبا سيدخل بيتنا. وكانت تعطي أوصافك. وذُهِلَت عندما شاهدتك اليوم ، قالت هذا هو الرجل الذي حدثتكم عنه . هل صدّقتموني ...؟
أما أختي كارمن هذه فقد كانت في الكويت في زيارة لإحدى صديقاتها وفي أثناء عودتها ركبت إلى جانبك في الطائرة من الكويت إلى لندن. وقد عرفتك عند دخولك واستغربت حضورك.
قلت : له كنت في موقف لا أحسد عليه. ولم يكن بإمكاني أن أتحقق من شيء في تلك اللحظات المرعبة. أما الآن فأنا في غاية السعادة، ولست مصدقاً ما حصل معي، وأنني قد خرجت من ذلك المأزق ألمأساوي. سيد رفائيل ما حصل لي اليوم ، لم يكن كابوسا في المنام بل كان كابوساً من الواقع . وقفتُ.. وصافحت السنيورة والدته شاكراً لها. وأدركت لماذا كانت تحملق بي وتؤشر علي طيلة الوقت. وصافحت كذلك أخته السنيوريتا كارمن وشكرتها لموقفها مني وتجرّؤها على إدخالي للبيت. وشكرت للسيد روفائيل حسن تصرفه وإسلوب تعاطيه في هذا الموقف. بدوره شرح لي قصة الكلب. فقال: أن الكلب يخضع لفترة تدريب من صاحبه لإدخاله الخدمة العسكرية. لأن صاحبه ذو رتبة عسكرية عاليه. ولم يكن الكلب يلحق بك. بل هو جزء من التدريب.
بعد واجب الضيافة قدم لي السيد روفائيل هدية بسيطة عبارة عن لوحة من السراميك (منظراً لمصارعة الثيران). وكتاباً باللغة العربية (الثقافة الإسبانية في الأبجدية العربية ). من تأليفه تم طبعه وتسويقه في المكتبات منذ أسبوعين. كتب عليه إهداء . ثم قال: لم أنس موقفك أثناء زيارتي للكويت. وكنت أتمنى لو عرفت بإجازتك فور وصولك. مع ذلك أتمنى عليك أن تزورنا مرة أخرى على أن تتصل بي في وقت مبكر لنعد لها وتكون زيارة مثمرة.
ودعتهم شاكراً موقفهم النبيل الذي لن أنساه. ودعوت السيد رفائيل لزيارة الكويت مجدداً. وعندما هممت بالخروج لم يشأ أن يتركني أذهب لوحدي قائلاً: أنا لم أنس موقفك عند لقاءنا في تلك السهرة وموقفك طيلة مدة الزيارة، وفي مطار الكويت عند السفر. خرجنا سوياً إلى سيارته حيث أوصلني لبيت أبن شقيقتي.
صباح اليوم التالي غادرت غرناطة إلى مدريد، ومن هناك إلى الكويت. بعد أن عرفت تلك الفتاة التي ركبت في الطائرة إلى جانبي من الكويت إلى لندن. وافترقنا في لندن وأنا مأخوذ بجمالها ولياقتها. لكن دون أن أعرف عنها شيئاً . ...واليوم عدت من إسبانيا وانا أعرف كارمن، أعرف أهلها، وأعرف بيتها ، وتبين لي ما كنت أتمنى أن أعرفه من قبل. أن كارمن هي شقيقة رفائيل صديقي الذي دعاني أكثر من مرة لزيارته أثناء مراسلاتنا ولم أُلبِ دعوته آنذاك .
لقد رأيت كارمن الفتاة، وهي بكامل أناقتها وفتنتها في الطائرة. ورأيت كارمن شقيقة صديقي اليوم وهي في قمة بساطتها دون تصنع أو أي زينة أو مؤثرات...فكانت ملاكاً في جسد إمرأة .
..... إنها كارمن ألإسبانية... بنت غرناطة الجميلة ... منبت الجمال .
* الصيرة : حظيرة المواشي
صيدا ـ لبنان
30/1/2010
|
العودة الى صفحة "فن, تراث وحكايات"
|