|
|
أحمد أيوب أيوب
وغابت دلال - بقلم: أحمد أيوب أيوب
جرت العادة في كل مرّة يشتري فيها كتاباً، أن يذهب تحت العريشة القائمة أمام البيت، وينتحي ركناً هادئاً، بعد أن يكون قد هيّأ خلوة لنفسه، فيها من الخصوصية، والكيف، والقدسية، ما يليق بمكانة الكتاب.
خصوصيّة. ذات حميميّة دافئة عالية.
وكيفٌ. متسلطناً فيه، فهو ملك زمانه.
وأمّا القدسيّة. فتبتّل في محراب الكلمة.
* * * *
على الطاولة في الركن الهاديء تحت العريشة. فنجان قهوة. علبة سجائر. ولاعة. إبريق ماء بارد.
نظارة وكتاب.
بتـؤدة وهيبة. جلس خلف الطاولة، وبوقار وضع النظارة فوق أنفه، فهو في حضرة الكتاب.
رطّب شفتيه بمقدّمة لسانه، وبلع ريقه، وأخذ يقلّب صفحاته. قرأ الإهداء، والمقدمة، ودخل في الموضوع الأول.
ثم الصفحة الأولى، فالثانية، الثالثة فالرابعة، واسترسل في القراءة. وأخذته النشوة بالإسلوب، مستغرقاً في تفاصيل الأحداث. فجأة. من بعيد تناهى لسمعه أصوات ناعمة محببة على قلبه. وأطلّوا يتسابقون نحوه. رفع نظارته، وأغلق الكتاب، بعد أن وضع العبارة المحببة (وخير جليس في الأنام كتاب) عند الصفحة التي وصل إليها بالقراءة.
وصل الأحفاد يتسابقون إلى خط النهاية حيث يجلس على الكرسي. وكل واحد وواحدة منهم يطمح أن يعتلي منصّة الفوز بالدرجة الأولى. فهذا ببراءته قفز فوق ركبتيه، والآخر أتاه من خلفه بكل شقاوته متشبثاً بكتفيه، يقبّله كيفما اُتفق. وتلك هجمت عليه معانقة إيّاه تمطره بوابل من القبلات بشكل عشوائي، تطبعها أينما حلّت، على رقبته وجبهته وجبينه، وهجم الباقون يتقاسمونه ،يقبّلون يديه وركبتيه، وأصبح كالفريسة بين أيديهم الناعمة يحمي نفسه من قبلاتهم المنهمرة، مقهقهاً، مزهوّاً، بعاطفتهم البريئة الصادقة، وعاصفة من القبل الشديدة، والولدنة المحببة التي غمروه بها.
وانتهت حمّى السباق، وحان وقت توزيع الجوائز. فأخذ يعانقهم عناق الفائزين، وهم يضحكون. مقبّلاً إياهم الواحد تلو الآخر قائلاً: أنا أعرف ( يا حبايبي) أنّكم تحبوني كثيراً. وأنا أحبكم كثيراً أيضاً.
وعندما أنتهي من القراءة في هذا الكتاب، وأشار بيده نحوه، فسوف أحضر لعندكم هناك في الحديقة، وإذا وجدت أنّكم تلهون بهدوء فسوف أعرض لكم شريطاً جميلاً من الرسوم المتحركة. فما رأيكم يا أحبتي؟
فأبدى الجميع بهجتهم وموافقتهم بأعلى صوتهم وهم يتقافزون، حاضرين. حاضرين. ثم تفرّقوا.
وعاد للطاولة، وجلس على الكرسي، ولمّا يمض وقت طويل حتى عاد أكبرهم يركض قائلاً:
ــــ (جدّو. جدّو) أريد أن أسألك سؤالاً. فتبسم له وهو يقول :
إسأل ما تشاء يا حبيبي.
فاستأذن أن يحضر كرسيّاً أولاً، وبعد أن أحضره وجلس عليه قال :
ـــ ( جدّو ) أنا أحبك كثيراً كثيراً. فهل أنت تحبني. ؟!!
ــــ أجابه : طبعاً أحبك وأحبك كثيراً أيضاً يا حبيبي. صمت الطفل قليلاً. وكأنه يستحضر ما سيقول مستطرداً ،
ـــ ( جدّو ) زمان. زمان، يعني زمان كثير. كنت أنت (جدّو) صغير والاّ (جدّو) كبير. ؟
ضحك الجد من كل قلبه لسؤآله الذي يتّسم بالبراءة والكثير من الذكاء. ونظر بعيداً قائلاً له :
ــــ زمان. زمان كثير كنت أنا صغير مثلك. ( وبعدين ) كبرت (شوي) ولما صرت شاباً تزوجت وصار لي أولاد وبنات. وكبر أولادي، يعني (بابا، وعمّو، وعمو. وعمتو، وعمتو وتزوجوا، وصار لهم أولاد، يعني أنت وأخوتك، وأولاد أعمامك وأولاد عمّاتك كلهم. وصرت أنا (جدّو). وصرت (بعدين) جدّو كبير. والتفت إليه فوجده قد غفي على الكرسي. فتوقف عن متابعة الحديث. وشرد بعيداً يجول بتفكيره بين محطات الماضي، وذكريات الشباب الحلوة، مع الأصدقاء والصديقات. يوم كان يلتقي صديقته على تلك الصخرة الكبيرة المنبطحة في ظل دوحة صنوبر ضخمة، على جانب درب مهّدته أقدام العشاق. في منطقة حرجية في إحدى مناطق الجبل القريبة من بيروت. تلك الصخرة التي شهدت أجمل لقاءاتهم. وأكثر أحاديثهم عذوبة ووجدانية، وضحكاتهم الزاخرة بالحب، المفعمة بالهناء. على تلك الصخرة تعاقبت خلوات حبهما، وتوثقت عهود الإخلاص والوفاء بينهما. فترسّخت لتلك الصخرة مكانة جليلة في نفسيهما.
كانت الصخرة تثير العجب.! إذ تبدو منحوتةً على شكل مقعد أعد خصيصاً للقاء العشّاق. فهي تطل من علٍ على بيروت وبحرها. وأمّا موقعها تحت تلك الدوحة العظيمة، فكان يوحي بالخيال، ويبعث على التناغم والإنسجام. لذا فكثيراً ما تصادف أن ينطقا نفس الكلمة في آن واحد، فينخرطا في الضحك ،غير أن ساعات الضحك والفرح قصيرة، إذ حكمت عليهما الظروف بالفراق. فسافر لإحدى دول الخليج لتكوين نفسه ،وبناء مستقبل أفضل. وأصبحت المراسلة وسيلة الإتصال الوحيدة بينهما لثلاث سنوات متواصلة.
ويوم أن عاد من السفر والتقيا. كان ذلك بمثابة ولادة جديدة لكل منهما، فعادا من جديد كما كانا. غير أن السعادة لا تعمّر طويلاً. وغالباً ما (تجري الرياح بما لا تشتهي السفن) فحكمت عليهما الظروف من جديد بالفراق مرة أخرى. ولكن هذه المرة فراق ليس بعده لقاء. إذ أصدر أهله قرارهم بعدم الموافقة على زواجه من حبيبته لاختلاف المذاهب. ولم يكن هناك من بارقة أمل بالتراجع عن هذا القرار.
ولـم يطل الوقت فكان قراره. إذ خطب وتزوج فتاة أخرى وسافر على عجل. ومع توالي الأيام، نجح في نسيان أو تناسي العلاقة السابقة لكن بمرارة وحرقة لا حيلة له بها. من خلال واقع جديد (الزوجة، الأولاد، العمل).
ودارت الأيام. وتبعتها السنون، أربعون عاماً مضت. وتقاعد عن العمل، وعاد من دنيا الإغتراب. إلى أن كان يوم تصادف مروره قريباً من الصخرة، خلوة حبه القديم، فعرّج عليها. اقترب من تلك الصخرة، ووقف أمامها وقد تعانقت يداه فوق صدره، متأمّلاً، خاشعاً، كالناسك أمام المحراب. مستذكراً الماضي مفتشاً بين طياته عن لحظات الأيام الخوالي السعيدة. وتساقطت دموعه، إذ شعر أن ذكرى تلك الأيام قد تجسدت من جديد لتوّها في ثنايا تلافيف الذاكرة بكل تفاصيلها. مسح دموعه محدّثاً نفسه: يا لهذا الزمن الغريب كم هو طويل.
قصير.! بعيد قريب.! أربعون سنة مضت وكأنه لـم يمض إلاّ يوم أو بعض يوم. فيا لغرابة الدنيا.!!
تقدم من الصخرة، ومسح عنها الغبار، كما كان يفعل في الماضي، ثم جلس عليها. ورغماً من أنه كان وحده، إلا أنه أحس براحة شديدة، وغمره فيض من الشعور بالسعادة، غير أنه ممزوج بإحساس غامض. مكث لبعض الوقت، ونهض بعدها مضطراً لارتباطه بأمور أخرى. وكعادته في كل مرة كان يغادر المكان في الماضي مع حبيبته، ودون أن يدري لماذا؟ كان يلتفت خلفه باتجاه الصخرة وكأنه يودعها. إلاّ أنه اليوم وعندما همّ أن يغادرتلك الصخرة، التفت وراءه كما كانت عادته فتراءت له حبيبته فعلاً كأنها تجلس هناك. لكنها الآن تبدو حزينة كئيبة، يغشّي عينيها عتب عميق. فما كان منه إلاّ أن عاد أدراجه إليها. وما أن جلس إلى جانبها على الصخرة، حتى أحس أنها تجسدت فعلاً بفستان أبيض وكأنها عروس في يوم زفافها. أساريرها منفرجة، وشفتاها مبتسمتان، تكاد تنطق فرحاً، وعيناها ضاحكتان، مزهوّة تملأ نفسها البهجة والسعادة. ثم ما لبثت أن مالت برأسها على كتفه تلتمس الحنان بغنج ودلال كما كان يحصل في الماضي. غير أنها ما أن مالت برأسها على كتفه هذه المرة حتى تلاشت صورتها تدريجياً، واحس أن كل المشاعر التي اختلجت في نفسه، وطغت على كيانه سرعان ما تبخّرت وبشكل فوري وكلّي. وسرت في جسده قشعريرة غريبة، وتيار جارف، ملأه بالحزن والكآبة والتشاؤم. وتملّكه إحساس قوي بالغربة في ذلك المكان، فنهض عن الصخرة وغادر مسرعاً.
صباح اليوم الثالث من تلك الزيارة للصخرة العتيدة. وبينما كان يتناول إفطاره في المنزل، رنّ جرس الهاتف، خفق قلبه، وسقطت اللقمة من يده، وشهق متسائلاً عمّن يتصل به في هذا الصباح؟ متوجساً من حيث لا يدري بما لا تحمد عقباه. جف حلقه، انعكر مزاجه، وانتابته موجة من التساؤلات والإستغراب خلال لحظات. اقترب من الهاتف، رفع السمّاعة بيد مرتعشة، وجاءه الصوت من بعيد. إنه مسؤول قسم التأمين الصحي بإحدى شركات التأمين يطلبه للتوقيع على أوراق (بوليصة) التأمين عنده هذا اليوم.
ارتمى على الكرسي بجانبه بعد أن اطمأنت نفسه، وشكر المتحدث على اتصاله بعد أن استفسر منه عن بعض الأمور وأقفل السماعة. أنهى إفطاره، حلق ذقنه، بدّل ملابسه، ثم جمع الأوراق والمستندات اللازمة والمطلوبه، ثم غادر متوجهاً إلى حيث يوجد مقر الشركة. وما أن وصل للمنطقة التي تقع فيه الشركة، حتى شاهده الحاج أبو عفيف بائع الكتب المستعملة هناك على قارعة الطريق، فهب محيياً إياه.
إذ أن صاحبنا لم يمر بتلك المنطقة لبضعة أشهر خلت. وبعد مجاملة قصيرة، ودّع الحاج أبو عفيف مستهمّاً للدخول لمبنى الشركة. ورغم الإعلانات الكثيرة الملصقة على الجدران عند مدخل البناية، فقد لفت انتباهه من بين تلك الملصقات، والإعلانات الكبيرة، ملصق صغير (صحيفة نعي) وجد نفسه لا شعوريّاً مشدوداً لقراءة تلك الصحيفة.
وعصرته المفاجأة. عندما لمح إسم حبيبته وأسماء ذويها وأقربائها ضمن تلك الصحيفة ينعونها. دقق النظر، فوجد أنها هي فعلاً حبيبته. وأنها قد توفيت جرّاء حادث سير من سائق أرعن متهور. وأن تاريخ الوفاة كان هو نفس اليوم الذي تراءت له وهي تلقي رأسها على كتفه عند تلك الصخرة.
وقف مشدوهاً. تنتابه مشاعر الحيرة والحزن، والأسى. وتعلّقت عيناه على تلك الورقة المشؤومة. محزوناً دامع العينين. وخانه لسانه فلم يقو على الكلام. وهنا أدرك سبب خوفه وتشاؤمه صباحاً عندما رن جرس الهاتف.
وأدرك أن حضورها في ذلك اليوم بفستانها الأبيض. إنما جاءت لتودّعه، وتؤكد وفاءها له حتى آخر لحظة في حياتها.
وغابت دلال
من كتاب فوانيس الليل
أحمد أيوب أيوب
19/2/2009
|
العودة الى صفحة "فن, تراث وحكايات"
|