|
أبونا إلياس زحلاوي - رشاد أبو شاور - 18/1/2008
|
الأب إلياس زحلاوي رجل دين، لا يترفّع عن الواقع بأسئلة روحانيّة سماويّة بعيدا عن أسئلة الحياة التي تهّم وتشغل الناس العاديين، فهو إنسان يعيش الحياة مع بني وطنه، وكّل الناس على هذه الأرض، في عصر يزخر بالمتناقضات، والظلم، والحروب، والفتن، وتسيّد الشّر.
لا يحبس الأب إلياس نفسه بين جدران الكنيسة، مترفعا عن شؤون الحياة اليوميّة لأبناء وطنه وأمّته العربيّة، بكّل همومهم: الوطنيّة، والقوميّة، والاجتماعية، والإنسانيّة...
|
رشاد أبو شاور
|
تشغله فلسطين، ولقمة خبز الناس المحرومين الجائعين، وسؤال الحريّة كشرط أساس لإنسانيّة وآدمية الإنسان. يلّح عليه سؤال وحدة الأمّة التي تفترسها الإقليميّة، وتتهددها الطائفيّة الجاهلة، واستبداد أمريكا في زمن قادتها الطائشين الحمقى وفي مقدمتهم: بوش الإبن مقترف جريمة العراق.
عرفته في مطلع السبعينات، وإعجابا به، استوحيت شخصيّة الأب إلياس في روايتي (العشاق)، التي صدرت طبعتها الأولى عام 77.
أدهشني حين تعرّفت به أنه رجل مسرح، يكتب ويتابع شؤون المسرح، وأنه معني بنهضة مسرحيّة دفعته إلى ترجمة تاريخ المسرح العالمي، وصدوره في خمسة أجزاء عن وزارة الثقافة السوريّة.
مسرحيته التي شدّت انتباهي كانت (المدينة المصلوبة) وهي تدور حول مدينة القدس، وقد أخرجها سمير سلمون الذي رحل شابا يرحمه الله، وهو الاسم الذي ارتبط بمسرحيات أبونا إلياس، وتألّق في إخراجها.
مسرحيته (وجبة الأباطرة) عمل شجاع، عالج في فصولها سقوط الإمبراطوريّة الرومانيّة، وانتهاء مجدها ببيع منصب القيصر لتاجر قدّم وجبة عشاء لجنود وضبّاط معسكر حامية روما التي انهارت، وأفل مجدها بسبب الظلم، والفساد، وهيمنة عقلية العسكر.
أبونا إلياس جعل من (الكنيسة) مكانا للثقافة والحوار، والتآخي المسيحي الإسلامي، انطلاقا من المواطنة، والانتماء لأمة واحدة.
دعا (أدونيس) و(نزيه أبوعفش) وكثيرين من الشعراء، والكتّاب، كنت أحدهم، للحديث في الأدب، وتقديم تجاربهم، ورؤاهم، وطرح وجهات نظرهم في هموم الناس وشؤون الثقافة والفكر، لجمهور وجد في الكنيسة فضاءً ثقافيّا رحبا، وليس مجرّد مكان طقسي للصلاة.
عنى الأب إلياس ببعض المبدعين الشباب آنذاك، ومنهم من لمع في سنوات قليلة، وهنا أتذكّر الراحل جميل حتمل.
أبونا إلياس يكتب في الصحافة العربيّة منذ خمسة عقود، وله دراسات فكريّة واجتماعيّة ودينيّة.
صدر له على مدى أربعين عاما 18 كتابا بالعربيّة، وكتابان بالفرنسيّة.
هو واحد من أسماء كبيرة يمنحوننا الثقة بأن رجل الدين يمكن أن ينخرط في العمل الوطني، والاجتماعي، وأن يسخّر جهده ووقته وفكره للتأثير في عقول الناس، وضمائرهم، وأخلاقياتهم، وتلمّس حقوقهم، ودورهم، وواجباتهم تجاه أنفسهم، ووطنهم، بل والإنسانية جمعاء، لتكون الحياة أجمل وأفضل، وأكثر قيمة.
وأنا أكتب عن الأب إلياس، أستذكّر المطران السيّد هيلاريون كبوتشي - الأب إلياس صديقه- والأرشمنديت عطا الله حنّا بطل تعريب الكنيسة الأرثوذكسية، ويرد إلى خاطري المطران حجّار اللبناني الذي عاش في فلسطين، وكان دائما في مقدمة التظاهرات، والتحركات، ضد بريطانيا وانتدابها، والتغلغل الصهيوني الخبيث.. ولا يغيب عن فكري أنا وكثيرين الأنبا شنودة بمواقفه الوطنيّة المتميّزة، ناهيك عن عدد كبير من رجال الدين العرب المسيحيين اللامعين حملة الرسالة، دعاة التآخي في الله والوطن.
الأب إلياس كاثوليكي، وهو دائما يردد أمامي، وبحضور كثيرين: نحن طائفة شرقيّة بتوقيت غربي.
هذا الكلام يفصّله الأب إلياس في كتاباته: نحن ننتمي لهذه الأرض، لهذه الأمة العربيّة، والمسيحيّة بدأت هنا، وانطلقت من هنا، ونحن لا نستورد مسيحيتنا.
فلسطين حاضرة في قلب وعقل الأب إلياس زحلاوي. كتب لها في المسرح، ولها وعن مأساتها كتب عشرات المقالات والدراسات، وألّف كتابه الهام: (من أجل فلسطين)، الذي صدر عام 2004.
العام 2006 صدر كتابه (أمن أجل فلسطين وحدها؟) عن مركز الغد العربي للدراسات الذي يشرف عليه المناضل الكبير جورج حبش، والذي يمكن اعتباره الجزء الثاني المتمم لكتاب (من أجل فلسطين)، فهذا الكتاب يتجوّل في مواضيع شتّى مركزها فلسطين، وانتفاضة شعبها التي يمجّدها كثيرا، وقضايا المجتمع في سوريّة، والحريّة كقضيّة إنسانيّة يرفض استلابها تحت أي حجّة، ورفضه للاحتلال الصهيوني، والعدوانيّة الأمريكيّة البوشيّة، والعدوان على العراق، وهو ينحاز للمقاومة اللبنانيّة، ويلّح في المقالات التي يضمّها كتابه هذا على أن المقاومة حّق مشروع، بل واجب على كل إنسان أن يقاوم لنيل حريّته بكّل ما يستطيع.
في كتابه هذا يدافع الأب إلياس عن حّق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى قراهم ومدنهم، ويعلى من قيمة الانتفاضة كفعل إنساني يبرهن على عظمة شعب فلسطين.
الأب إلياس رجل دين، وكاتب شجاع، فهو يدين الغرب الاستعماري. يكتب في احدى مداخلاته في الكتاب عن صمت الكنيسة، وعن جرائم هذا الغرب: كانت الانتفاضة ماثلةً في مجمل حديثنا، إذ كنت أطرح بقوّة سؤالاً ملّحا حول صمت المجتمع الغربي برمّته، وصمت الكنيسة الغربيّة، وكنت أدين بقسوة الصمتين.
يدرك الأب إلياس زحلاوي أن حوار الثقافات، والحضارات، والأديان يفترض أن يبدأ في البيت الواحد، ولذا يحرص دائما على التقريب بين المسيحيين والمسلمين العرب، فهو لم يتوقّف عند كتابة المسرح، وترجمة الشعر المنحاز للإنسان، ودعوة كثير من المبدعين العرب للتحدّث في فضاء الكنيسة، وجمع فرق إنشاد إسلاميّة ومسيحيّة، لتنشد معا لله الواحد، وحب وطن في الفضاء الكنسي الرحب، وهو بهذا يسهم بكسر العزلة، يمدّ جسرا وطيدا بالغناء والموسيقى، والشعر، والحوار، والتعارف المباشر بين الأهل.
هذا الرجل يحمل رسالة، وهو رغم دخوله - أمدّ الله في عمره - السنوات الأولى من عقده الثامن - من مواليد دمشق عام 1932 - فهو يحمل روحا تتقد وتضيء وتشّع ثقافة ووطنيّة وعروبة ومحبةً لفلسطين.
أمن أجل فلسطين وحدها؟ يتساءل الأب إلياس، وهو بمقالاته، وحواراته يجيب: من أجل فلسطين، ووحدة الأمّة، وكرامة الإنسان العربي، ودور إنساني عادل وشجاع للكنيسة، وعلاقات صحيحة محترمة بين الدول، ورفضا للهيمنة والاستبداد.. و... أليست كلّ هذه القضايا تتقاطع في فلسطين أكثر القضايا في عصرنا عنوانا للظلم، والإجرام الصهيوني، والانحياز الأعمى لأمريكا بوش في ذروة العدوانيّة، ونفاق - هكذا يراه الأب إلياس- أوربا وانتهازيّة قادتها؟
يكتب المناضل الكبير الدكتور جورج حبش في مقدمة الكتاب: أختم بتوجيه تحية تقدير للأب إلياس زحلاوي لدوره التنويري كرجل دين مسيحي، يشكّل من خلال انخراطه في القضايا المصيرية لأمتنا العربيّة هو وأمثاله من رجال دين مسيحيين ومسلمين منارةً وسط هذا النفق المظلم.
|
|